جمال الشوفي
فرضت المعادلات الجيوسياسية الروسية تغيرّاً حادّاً على مسارات المعادلة السورية منذ تدخلها العسكري المباشر عام 2015، واتضحت مؤشرات التغيّر السياسية بتخفيض محتوى قرار جنيف1(2012) القاضي بإيجاد “هيئة حكم كاملة الصلاحيات” للدخول في مرحلة انتقالية تقودها حكومة وحدة وطنية، تفضي بعد ستة أشهر لانتخاب هيئة تأسيسية لصياغة دستور عصري للبلاد يُستفتى عليه شعبياً، وتشرف على انتخابات ديموقراطية وفقاً لنص القرار الأممي 2254 الصادر عام 2015 في مثل هذه الأيام، وليس هذا فقط، بل فرضت المعادلات الجيوعسكرية أيضاً تغيير مسار الحل السياسي وتعطيل الدخول في المرحلة الانتقالية والبدء من الحالة الدستورية بشكل مخالف لمضمون القرار 2254، وذلك لعدم وجود آلية ضاغطة على الروس والنظام (المنتصرون عسكرياً) تجبرهم على الدخول في المرحلة الانتقالية.
اليوم، ورغم ما يعتري الحالة السورية من استعصاء، لم يزل القرار الأممي 2254 مطلباً سورياً يستوجب التنفيذ، فقد تشكلت على أساسه الهيئة العليا للتفاوض التي تجمع غالبية قوى المعارضة السورية، وهو مطلب واضح لمظاهرات السويداء التي دخلت شهرها الخامس على التوالي، ذلك أنه القرار الدولي الوحيد الذي يقضي بحل سياسي للمسألة السورية والذي يحمل في طياته مدلولات سياسية متعددة أهمها:
-حل المسألة السورية حلّاً سياسياً يمنع فرض شروط الغلبة العسكرية.
-رغم تحقيق انتصار عسكري لروسيا وحلفائها الإيرانيين وسلطة النظام في سوريا في الداخل السوري، لكن هذا الحلف لم يتمكن من فرض شروطه السياسية كليًا وتصوّراته لانهاء الثورة السورية، علاوةً على فشل مسار سوتشي/2018 كمسار بديل لـ2254.
-رغم إشارة القرار لحل سياسي سوري، لكنه أشار بوضوح لدور كافة الدول المتدخلة في الملف السوري للمساهمة في تفعيله، ما يشير إلى أن القرار يحمل بين طياته مصالح تلك الدول المتناقضة بينياً.
-المسألة السورية تجاوزت موقعها المحلّي، إلى تفاوض بين القوى الفاعلة في الملف السوري إقليمياً ودولياً.
ثمة سؤال متداول اليوم: ما دامت المصالح الدولية والإقليمية المتحكمة في الملف السوري لا تستطيع فرض حل لجهة بذاتها، سواء لمصلحة روسيا والنظام كلياً أو المعارضة السورية ومن خلفها القوى الدولية الداعمة، فما جدوى التمسك به؟ وما البديل عنه؟
هذا السؤال المتكرر في السويداء وعموم سوريا، هو سؤال محق من حيث المبدأ، لكنه غير مكتمل الأركان؛ فالقرار ذاته هو المعطِل لجميع الحلول العسكرية التي فرضتها روسيا والنظام، وهو القرار الذي يضع المسألة السورية كمسألة وعقدة دولية، إذ لا مجال للحسم العسكري فيها سواء لسلطة النظام أو قوى المعارضة، وتكفي هذه النقاط لتعيد كل أطياف المعارضة وقواها السياسية والثورية والعسكرية حساباتها في طريقة الحل السوري، وبالضرورة إعادة طرح المشروع الوطني كأولوية سورية وتحديد معوّقاته وإمكانية تفعيل الحل السوري بين هذه المحددات المتباينة والحادة، ما يعني:
1-استبعاد مفهوم الشرعية العسكرية أو الثورية من معادلات الحل السوري، تلك المتمثلة بسلطات الأمر الواقع المنتشرة في كامل الجغرافية السورية.
2-استبعاد التنافس السلبي السياسي والأيديولوجي والإنفراد في قيادة مركب الثورة كما اعتادت ممارسته المعارضات السورية طوال الأعوام الماضية.
3-الخروج من دوائر الاستقطاب الدولي والارتهان للمشاريع الخارجية، مقابل التعامل مع الأزمة وفق مقتضيات المصلحة السورية، رغم التناقضات البينية بين أطرافها.
وإذا كان الخروج من دوائر الاستقطاب الدولي شرطاً يصعب تحققه بتمامه في المعادلة السورية كما تشير معطيات الواقع، نتيحة تعدد المتدخلين في الملف السوري: الروس والإيرانيين من جهة، والأتراك ودول الخليج العربي من جهة أخرى، والأميركان وأوروبا في موازاة الجميع؛ فإن إمكانية ضبط الشرعيات العسكرية أو الثورية والتنافس السلبي السياسي على مواقع متقدمة في الثورة وقيادة المرحلة الانتقالية أمر مرهون بيد السوريين أنفسهم، فهل يبدأ الحل السوري من هنا؟
إن أية عملية تفاوضية تقوم على محددات عدة أهمها: معرفة الطرف الآخر جيداً. وتماسك ووضوح الأهداف التي تمثّلها المرجعية الموحدة لكل طرف. وامتلاك القدرة على المناورة في حدود معيّنة. وعليه، يبدو أن النظام يدرك جيداً هدفه بالحفاظ على سلطته المطلقة، وقدرته على المماطلة والمناورة الواسعة، بالاعتماد على وحدة القرار والمرجعية التي يمتلكها، إضافة لاستناده للحلول العسكرية الأمنية على الأرض، في حين تبدو هذه النقاط مبهمة ومشتتة من جانب المعارضات السورية، فرغم وضوح الهدف الرئيسي المتمثّل بإحداث التغيير السياسي العام في سوريا، إلا أنه لا توجد مرجعية معارضة موحدة بوسعها اتخاذ القرار يصعب خرقها في كل وقت حسب مصالح المتدخلين في الملف السوري.
يمتلك السوريون اليوم “فرصة ذهبية” لتحقيق تقدّم واسع في التفاوض العاجل والملح للحل السوري من خلال: أولاً، المظاهرات الشعبية السلمية الواسعة في محافظة السويداء تساهم في نقل الملف السوري من تفاوض بحكم الغلبة العسكرية، إلى موقع التفاوض السياسي السلمي للدخول في مرحلة انتقالية محمولة على قوة شعبية اجتماعية واسعة. ثانياً، قراءة مصالح دول الخليج العربي والمحيط الإقليمي في منع أي تطورات عسكرية إقليمية في المنطقة تحاول افتعالها إيران، كما حدث في غزة، وتحجيم دورها في المنطقة، إضافةً لمصالحها في وقف تهريب الكبتاغون إليها. وثالثاً، وجود مصلحة لبروكسل وواشنطن بالتفاوض مع الروس في المسألة السورية لتخفيف حدة الاحتقان العالمي في أوكرانيا.
لقد أعادت مظاهرات السويداء إحياء المسألة السورية من جديد وإمكانية استعادة نقاط القوة والفاعلية السياسية كفعل اجتماعي شعبي، وليس وفق رغبات وطموحات ومشاريع السياسات الحزبية وحسب، وهي إذ تتوقع أن تلاقيها مبادرات الهيئات والتيارات والتحالفات السورية، وبقية المدن السورية القادرة على التظاهر، لتشكل مجتمعة وسيلة لاستبعاد نقاط الضعف واستبدالها بنقاط القوة القائمة على:
-تقديم المصلحة السورية بالتغيير السياسي كحل سوري عام على المشاريع السياسية الضيقة المكتفية بسلطة هنا وأخرى هناك، مناطقية أو سياسية.
-تغليب الحل السياسي على فرضيات الحسم العسكري وتفويت الفرصة على المشاريع الخارجية التقسيمية.
-تحقيق المصلحة السورية بالاستقرار والسلام مع مصالح دول المحيط العربي بوقف تنامي الإرهاب والتمدد الإيراني في المنطقة وإغراقها بالمخدرات والميليشيات الطائفية.
-الضغط باتجاه الدخول في المرحلة الانتقالية وايقاف عمل اللجنة الدستورية حالياً لما بعد تحقيق ذلك.
إن حاصل جمع هذه النقاط يمكن تلخيصه في إمكانية تشكيل “تيار وطني سوري”، تشارك فيه كل القوى السورية، بمرجعية موحدة معبرة عن الكل السوري بوصفهم صاحب المصلحة في التغيير السياسي. تيار قادر على تغيير قواعد التفاوض الدولية وفق القرار 2254. وإلّا فإن بقاءها القوى المعارضة متفرقة يكرس استعصاء الحل السوري واستنقاعه لزمن آخر، ويهدر آخر مقومات الفعل الشعبي السوري؛ وكلنا خشية من أن نكرر مقولة العرب الشهيرة: في الصيف ضيعتِ اللبن.