لم يحظَ موضوع بتغطية ونقاش وجدال أكثر من السؤال الجدليّ حول الانسحاب الأمريكي من سوريا، ومع تغيّر الإدارات الأميركية ومع أيّ عمليّة عسكرية من قبل أذرع إيران في العراق وسوريا، يعود هذا الموضوع للواجهة. ولعلّ آخر مرّة طرحت فيه مسألة “الانسحاب” بشكل جدي كانت خلال إدارة الرئيس الأسبق دونالد ترامب، الذي اتخذ قراره عقب اتصال مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسحب القوات الأمريكية من سوريا بعد تعهدٍ من أردوغان بضبط الأمور في شمال شرقي سوريا على يد القوات التركية. لكنّ قرار ترامب بالانسحاب لاقى اعتراضات جمّة داخل أروقة الإدارة الأميركية واعتراضات أقوى من وزارة الدفاع والاستخبارات الأميركية، ونتيجة ذلك أُجهض القرار وأجبر ترامب على التراجع، وعقب ذلك ومع وصول إدارة الرئيس جو بايدن للبيت الأبيض وجدنا اهتماماً كبيراً بالوجود الأميركي في سوريا. ظهر ذلك جلياً بزيارات رفيعة المستوى لوزير الدفاع وقائد القيادة المركزية بالشرق الأوسط ورئيس الأركان لشرقي الفرات، وأيضاً برزت عبر منظومات سلاح ثقيل وعبر أسلحة جديدة ومتطورة تم نقلها إلى الحلفاء في شرقي الفرات وإلى قاعدة التنف، وبزخم مغاير تماماً لما كان الأمر عليه بالسابق، وتلك التعزيزات بالأسلحة، خاصة الصاروخية منها، عكست اهتماماً أميركياً متزايداً بأهمية تواجدها في سوريا.
الوجود الأميركي في سوريا ترافق مع شبه انسحاب من العراق، وقيل حينها إن تواجدها في شرقي الفرات سيشكّل بديلاً عن الانسحاب الجزئي من العراق، وأن العين الأميركية من خلال انتشار بعض قواعدها في شرقي سوريا ستتيح لها مراقبة المنطقة بالكامل، من تركيا إلى الخليج العربي إضافة لإسرائيل. وأيضاً في مبررات الوجود الأميركي تبرز قضية الحرب على الإرهاب (القاعدي والداعشي) التي لم تُحسم بعد وكثيراً ما قام الكوماندوس الأميركي بالتعاون مع قوات سوريا الديموقراطية بعمليات مداهمة وانزالات جوية واستهداف لقيادات داعشية حتى في مناطق النفوذ التركي، إضافة إلى مهمة أميركية بتأمين حل سياسي يُرضي الشعب السوري، وهناك سبب لا تخفيه واشنطن ويتمثل بتحجيم وإجهاض المشروع الإيراني في سوريا والمنطقة.
وقال السيناتور الجمهوري عن ولاية كنتاكي، راند بول إن مشروع القرار الذي تقدم به من أجل سحب 900 جندي أميركي من سوريا قد فشل، بعد رفض مجلس الشيوخ الأميركي مشروع قانون تقدم به بول يطالب القوات الأميركية بالانسحاب من سوريا، بأغلبية 84 صوتاً ضد مشروع القانون، فيما أيده 13 صوتاً.
بالتأكيد طرح موضوع الانسحاب من سوريا لا ينسجم تماماً مع الظروف المعقدة والمتشابكة التي تعيشها المنطقة؛ فالحرب الدائرة في غزة ترخي بظلالها على كامل منطقة الشرق الأوسط والعالم، والأذرع الإيرانية تعتبر نفسها جزء أساسي من تلك الحرب من خلال طروحات إيرانية تتحدث عن “وحدة الساحات” وترابط الجبهات، ويترافق الحديث عن الانسحاب أيضاً مع تهديدات عديدة صدرت عن مسؤولين إيرانيين باحتمالية التدخل العسكري بالحرب على غزة عبر جبهات جنوب لبنان أو الجولان السوري، وصحيح أن إيران عوّدتنا على أن جلّ حروبها تُخاض عبر الإعلام فقط، وعبر تصريحات إعلامية استفزازية غير قابلة للتنفيذ. إلّا أنه في عالم العسكرة والسياسة لا يمكن ترك شيء للمجهول، والاعتماد على سيناريو واحد، أو خيار وحيد، أو حتى تفسير واحد، بل يجب التعامل مع تصريحات إيران بمنتهى الجدية لأن الأخطاء ممنوعة في تلك المرحلة، خاصة أن أذرع إيران ما فتئت تتحرش بقواعد القوات الأميركية وقوات التحالف عبر ميليشيات تُدين بالولاء للحرس الثوري في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، أيضاً علينا ألا ننسى أن هناك توصية وبنداً خرج بالبيان الختامي لاجتماع الرؤساء الثلاثة (الروسي والتركي والإيراني) الذي عقد في طهران وطالب بخروج القوات الأميركية من سوريا، وأن رأس الحرب التي ستتحرك لإجبار واشنطن على الانسحاب ستكون ميليشيات إيران مدعومةً بشكل ما من قبل قاعدة حميميم الروسية في سوريا، وبالتالي فالوجود الأميركي في سوريا يصبح أكثر أهمية من ذي قبل بسبب تلك الظروف، وليس من العبث أيضاً أن تقوم الولايات المتحدة بالزج بـأضخم حاملات طائرات في البحر المتوسط والأحمر والخليج العربي، وكذلك الزج بأحدث غواصاتها النووية الحاملة للصواريخ الباليستية من نوع “توما هوك”، مع نقل أكثر من خمسة أسراب جوية حديثة ومتطورة إلى قواعدها الجوية في الشرق الأوسط (قاعدة الظفرة بالإمارات، الأزرق في الأردن، عيديد في قطر، وكذلك قاعدة إنجرلك الجوية في تركيا)، بل إن تلك الإجراءات تعكس توجساً أميركياً من مخاطر قادمة أو تحضيرات لعمليات عسكرية قيل في مرحلة ما أنها تهدف لإغلاق الكوريدور الإيراني على الحدود السورية_ العراقية، وحصار ميليشيات إيران في سوريا.
وتبرز اليوم أيضاً قضايا خطيرة في المنطقة لما يمكن أن يعقب الحرب على غزة، وحديث إسرائيلي أمريكي عن هدف اجتثاث حركة حماس وذراعها العسكري “كتائب القسام”، وإنهاء هيمنتها على القرار الأمني والسياسي والعسكري في قطاع غزة واستبدالها هي وحركة الجهاد الإسلامي بالسلطة الفلسطينية الشرعية الموجودة في الضفة الغربية بقيادة الرئيس محمود عباس، كما بدأ الحديث إسرائيلياً وأميركياً وحتى أوروبياً عن ضرورة تطبيق القرار 1701 في جنوب لبنان منعاً لعملية أخرى من “طوفان الأقصى” على يد ميليشيات “الرضوان” التابعة لحزب الله، وعن حتمية انسحاب ميليشيات حزب الله لما بعد نهر الليطاني، واستلام حدود لبنان الجنوبية من قبل الجيش اللبناني، تلك أمور بالتأكيد تنسف كامل مشروع الهلال الشيعي الإيراني في المنطقة، وقد ينتج عن تطبيق المطالب الإسرائيلية والأمريكية صدامات ونزاعات، وبالتالي فالوجود الأميركي في سوريا تبرز أهميته من جديد ويصبح هاماً وضرورياً أكثر من ذي قبل.
في مجمل الأحوال، يمكن القول إن معظم الطروحات التي تتحدث عن انسحاب أميركي من سوريا يغلب على مروجيها عامل الطابع الرغبوي والعاطفي، ويحمل في طيّاته أمنيات لا تستند للواقع مطلقاً؛ فالمنطقية بوجود القوات الأميركية في سوريا لها الكثير من المبررات التي تجعل واشنطن تتمسك بها أكثر، خاصة أن التحركات والتحشدات وطريقة التعاطي الأميركي مع حلفائها كلها تؤكد أن القوات الأميركية باقية في سوريا لأجل غير مسمى.