في مقالة سابقة حملت عنوان “المخاطر المحتملة على النظام السوري نتيجة لحرب غزة” توصلنا إلى مستخلص يفيد بأن النظام السوري لن يواجه التغيرات المحتملة على خريطة الشرق الأوسط سواء لجهة الجغرافيا، أم السياسيات أم المشاريع، بإجراء تغييرات داخلية تجعله أكثر انفتاحاً على القوى الوطنية الديمقراطية في المعارضة السورية، وتقبّلاً لإشراكها في الحكم، مما يجعله أقوى في مواجهة الضغوطات الخارجية. يستند في عناده هذا على دعم حلفائه، وخصوصاً على دعم إيران، التي دخلت في تفاهمات معينة مع واشنطن حول ذلك كما تشير بعض المصادر الإعلامية والسياسية؛ فبحسب المحامي أيمن أبو هاشم منسق تجمع “مصير الفلسطيني السوري” أن السيناريو الأكثر ترجيحاً، لتفاهمات إيران وأميركا بخصوص عدم توسيع حرب غزة، هو بقاء النظام السوري، وإعادة تموضع الوجود الإيراني في سوريا بعد إضفاء الشرعية الأميركية عليه.
في الواقع لم يكن النظام بحاجة إلى تفاهمات إيران مع أميركا لكيلا يستفز إسرائيل، إذ لم يحاول في السابق الرد على اعتداءاتها المتكررة على مواقع عديدة في سوريا، ومنها بعض المواقع المدنية مثل مطاري حلب ودمشق الدوليين، علماً أنه يمتلك ثلاث ألوية صواريخ أرض- أرض يمكنها أن تصيب أي موقع في إسرائيل. مع ذلك، وحسب ما أفادت به مصادر محلية “للقدس العربي”، فإن حرب غزة جعلته، بالتوافق مع إيران، يتخذ بعض الإجراءات الاحترازية، منها السماح لحزب الله وغيره من المليشيات التابعة لها بالتموضع ببعض الأماكن في الجبهة المحاذية لإسرائيل.
من جهة أخرى، فإن حرب غزة من المرجح أن تطيح بالمشروع الأميركي لإدخال عنصر جديد إلى هندستها السياسية للمنطقة، تكون السعودية وإسرائيل دعامتاه الرئيسيتان، أو على الأقل سوف تعيقه لفترة طويلة نسبياً. من المعلوم ان أميركا عملت على هذا المشروع منذ عام 2022، وتوضح أكثر في اجتماع قمة العشرين، ويفيد بإنشاء طريق جديد للتجارة يربط الهند بأوروبا مروراً بالإمارات والسعودية ومن ثم الأردن وإسرائيل.
وسوف تطيح حرب غزة أيضاً، لزمن ليس بالقريب، بمشاريع التطبيع التي كانت تجري بين بعض الدول العربية وإسرائيل؛ فبحسب المصادر السعودية فإن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، قد صرح بأن بلاده لم تعد مهتمة بالتطبيع مع إسرائيل، وأن هذا لن يحصل إلا في سياق تسوية شاملة لقضية فلسطين.
من المؤكد أيضاً أن حرب غزة، التي بدأت تحفر عميقاً في مستويات التفكير لدى قطاعات واسعة من الإسرائيليين، سوف يكون لها تأثيرها على كثير من القناعات والسلوكيات التي بدت راسخة لديهم، من قبيل أن إسرائيل محصنة بقوتها، وتقدمها العلمي والتكنولوجي، ونظامها الديمقراطي، وبدعم الدول الغربية لها، وغيرها.
وعليه ونتيجة لهذا الحفر يرجح، بداية، أن تحصل تغيّرات في المستوى السياسي والأمني الإسرائيلي تؤدي إلى فقدان نتنياهو لمنصبه كرئيس للوزراء الإسرائيلي، وربما خروجه نهائياً من العمل السياسي، وسوف يلحق به تحالفه الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل. ومما لا شك فيه سوف تجري تحقيقات في إسرائيل تتعلق بالفشل الأمني والعسكري الذي سمح لحماس مهاجمتها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر تطيح بنخبة من القادة الأمنيين والعسكريين الاسرائيليين.
لكن التغيير الأهم، الذي من المرجّح حصوله في العقلية الإسرائيلية الصهيونية لاحقاً، هو ذاك الذي سوف يؤدي إلى تراجع التطرّف الإسرائيلي لجهة القبول بحلّ الدولتين للقضية الفلسطينية؛ فبحسب بعض المصادر الإعلامية والسياسية الإسرائيلية فإنه ليس في صالح إسرائيل أن تخوض حروباً لا نهاية لها، بل إن مصلحتها، على المدى البعيد، تكمن في الاندماج في المنطقة، وحتى انجاز هذا الحل المتوافق عليه دولياً وعربياً وفلسطينياً، تخشى بعض الأوساط السياسية والأمنية في إسرائيل من حصول موجة هجرة عكسية واسعة من إسرائيل إلى الخارج، وهي عملياً قد بدأت بالنسبة لمزدوجي الجنسية.
في الواقع بدأت حرب غزة تحفر أيضاً في مثيلتها لدى العرب، حكاماً وشعوباً. وإذا كان حفرها لدى الحكام العرب يواجه عقبات كثيرة، نتيجة الهندسة السياسية التي عملت على ترسيخها أمريكا خلال العقود الماضية، فإن الحفر في مستويات التفكير السياسية والثقافية العامة لدى الشعوب العربية تتسارع كثيراً مما قد يتسبب، في حال استمرار الحرب في غزة، بانهيار مجمل البناء الهندسي السياسي للمنطقة، وهذا ما تخشاه الدول الغربية، وكثير من الحكام العرب.
من نتائج حرب غزة المؤكدة أيضاً تعويم القضية الفلسطينية وإعادة طرحها من جديد في المحافل الدولية، وبحسب العديد من المؤشرات، سوف يتم التعامل معها بجدية هذه المرة. يؤكد ذلك ما تطرحه الإدارة الأميركية بلسان رئيسها، وبلسان وزير خارجيته، وما يصرح به العديد من القادة الغربيين، وروسيا والصين، وكثير من دول العالم، من ضرورة التفكير بالحلول السياسية بعد توقف حرب غزة.
ليس خافياً متابعة الصين وروسيا لما يجري في المنطقة، ويأملان أن تتورط أمريكا، وغيرها من الدول الغربية، أكثر فأكثر في الأزمة المستجدة نتيجة حرب غزة، فيجنيان من ذلك مكاسب سياسية واستراتيجية. وبالفعل فقد بدأت هذه المكاسب بالتحقق نتيجة دعم أميركا اللامحدود لإسرائيل سياسياً ودبلوماسياً، وتزويدها بما تحتاجه من معدات عسكرية، وحشدها لأساطيلها في البحر الأبيض المتوسط، وأرسالها لأكثر من ألفي جندي وخبير من قواتها إلى إسرائيل.
وبعد مضي نحو شهرين على بدء حرب غزة، ونتيجة للدمار الهائل الذي احدثته آلة الحرب الإسرائيلية في مدن القطاع، والخسائر الكبيرة التي أوقعتها بالمدنيين، أخذت تتسع دائرة تضامن شعوب العالم مع الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الشعب الأميركي، مما جعل الإدارة الأمريكية تخفف من حماسها لتأييد اسرائيل. وتخشى أميركا في حال استمرار حرب غزة لفترة أطول أن تتأثر مساعيها لاستقرار الشرق الأوسط، وبالتالي إشغالها عن تركيز اهتمامها على الشرق الأقصى لتطويق الصين، بعد أن نجحت في إشغال روسيا بحرب أوكرانيا.
وفي الختام: إذا كان فشل ” ثورات ” ما سمي بالربيع العربي قد أدى إلى إعاقة صعود الإسلام السلفي والجهادي المتطرف، والبدء بانحساره، فإن ثمة خشية حقيقية من أن تعكس حرب غزة هذه العملية إلى حين، وفي ذلك شرّ على المنطقة برمتها.