ليس بين القضيتين الفلسطينية والكردية أي رابط، أو تشابه عميق، سوى وجود شعبين يسعيان لإيجاد مكان لهما تحت الشمس، فقد سبق أن جرت محاولات إخراجهما من التاريخ، وكذا من الجغرافيا. ربما يضاف إلى ذلك اعتبارهما قضيتين مزمنتين يؤجَّل حلّهما وينظر إليهما على الدوام كقضايا أمنيّة قابلة لأن تطويها سياسات الأمر الواقع، لكنّ شيئاً من ذلك لا يتحقق.
يبدو الوقت مناسباً أكثر من أي وقت مضى ليجدد العالم تبنّي مسألة حل الدولتين كتسوية نهائية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ففي السادس من أكتوبر/تشرين الأول، قبل موعد هجوم حماس على غلاف غزّة، كان طرح هذه المسألة ينطوي على شيء من الترف، ويلقى الكثير من اللامبالاة، أو ربما كان ينظر إلى طرح هذه المسألة بأنها جزء من فلكلور التسوية التي سعت إليها منظمة التحرير الفلسطينية منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. لكنّ يوم 7 أكتوبر دفع باتجاهين متباينين، الأول فلسطيني رأى في عملية طوفان الأقصى مقدّمة “للتحرير”، وربما ليس من تكثيف أبلغ لهذا الاتجاه الرغبوي ما قاله شاعر فلسطيني إن “تحريرها (فلسطين)، بدأ”، فيما الثاني، الذي ترافق مع الرد الإسرائيلي العنيف، دفع باتجاه الحديث عن إخراج سكان غزّة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية مع تراجع الحديث عن “حل الدولتين”، فالأولوية الدولية كانت للهدنة الإنسانية، ووقف الحرب على غزة، وإيجاد حلّ لمعضلة الأسرى والرهائن.
لكن العالم يلتقط عقله مجدداً بعد مشاهد الدمار العميم والقتل اليومي والقصف المتبادل، وتنامي الاحتجاجات في العواصم الغربية رفضاً لمنطق الحرب الشاملة. بهذا المعنى ستبقى حماس تعيش في أنفاقها بشعب مكشوف على القتل، فيما تفكّر إسرائيل بوسائل ممكنة للتخلّص من الأنفاق، أمّا العالم فقد دخل نفقاً لا يمكن الخروج منه إلّا بتجديد النقاش حول أولويّة حل الدولتين، وهو ما يحصل في هذه الأثناء، فالعالم، لاسيما الغرب، يدرك أن هناك دورة عنف آخر ستأتي، ربما تكون أشدّ، حال الوصول إلى نصف حلّ في غزّة، ونصف الحل هنا هو وقف الحرب وتبادل الأسرى، فالجرح النرجسي الإسرائيلي لن يندمل بسهولة، والأطفال في غزّة حفظوا كل معاني الفقد والأذى والعذاب، وهو ما يعني أن مدرسة حماس للإعداد الحربي ستتغذّى على ما حصل خلال الشهرين الفائتين. هذه المسائل بات يعيها الجانب العاقل من العالم أكثر من أي وقت آخر.
في المقلب الآخر، لا يلقى الحديث عن حل القضية الكردية في تركيا وإيران، والكف عن محاولات تطويق تطوّرها الطبيعيّ في العراق وسوريا، الاهتمام المطلوب؛ فالأوضاع متروكة لسياسات عدائية تتوسل القسوة والعنف، بدل الجلوس إلى طاولة مفاوضات حقيقية مع ممثلي الشعب الكردي، مثلما حصل في محاولة تركيا اليتيمة الجلوس مع ممثلي حزب العمال الكردستاني خلال مباحثات أوسلو السرية، وقتها أعلن المتحدث باسم حزب الشعب الجمهوري “أن الوثائق تشير إلى أن وجهات نظر أردوغان وأوجلان كانت متطابقة بنسبة 90 إلى 95 في المئة”، وقبل ذلك كانت الجهود المبذولة بين الثورة الكردية ونظام البكر-صدام في العراق قد أنتجت اتفاقية الحكم الذاتي الكردي في آذار/مارس 1970، وكذلك النجاح النسبي لعبد الرحمن قاسملو زعيم حزب الديمقراطي الكردستاني-إيران في انتزاع اعترافات أوّلية من الإمام الخميني بحق الكرد في أن يكونوا شركاء في إيران ما بعد ثورة 1979، غير أن كل مساعي الكرد في أن يكونوا شركاء في الدول التي تتقاسمهم، عدا تجربة كردستان العراق الراهنة، باءت بالفشل نتيجة ذهنية الأنظمة التي ترى القضية الكردية مسألة أمنية، أي أنها “مادون سياسيّة”، وبهذا الشكل تبقى القضية الكردية، شأن القضية الفلسطينية، واحدة من الأزمات المزمنة التي يعانيها الشرق الأوسط، ولعلّ أي شرقٍ أوسطَ آخر، جديد أو محدّث، يتجاوز هاتين القضيتين سيبقى أسير سياسات الإنكار والمقاومة.
في المحصّلة، طوّر الكرد في المستوى السياسي والحزبي شكلاً لحل قضاياهم في الدول الأربع يمكن تسميته بـ”حل الشعبين” القائم على أساس اعتراف الأنظمة بشراكة الكرد مع القوميات المهيمنة ضمن دول ديمقراطية، ففي تركيا بات تصوّر الكرد متمثّلاً بوجوب الإقرار بوجود شعبين في تركيا، وفي إيران وسوريا كذلك، لا يعني ذلك أنه ليس هناك قوميات أخرى، بقدر ما هي محاولة كردية لتكسير نموذج “القومية المهيمنة” الذي فرضته الأنظمة المقتسمة منذ أن رسّمت المنطقة وفصلت بين الكرد وعالمهم القومي والثقافي المتصل مطلع القرن العشرين. ولعل أوّل تصوّر لحل القضية الكردية على أساس الاعتراف حصل في عراق الزعيم عبد الكريم قاسم ودستوره المؤقت لعام 1958، ففي المادة الثالثة منه كرس النص الدستوري مفهوم حل الشعبين واعتبر “العرب والكرد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية”.
كانت الولايات المتحدة تستعد لتخفيض عديد قوّاتها في الشرق الأوسط مأخوذةً بأفكار التطبيع والتشبيك الاقتصادي بين الدول العربية الخليجية وإسرائيل وخطوط التجارة المشتركة العابرة للقارات، الأمر الذي كان من شأنه تطويق تمدد إيران في المنطقة بكلفة أقل، لكن هجوم “حماس” فرض على واشنطن العودة إلى المنطقة بكلفة عسكرية عالية، وهو ما لا تريده إدارة بايدن المنشغلة بتطويق روسيا والصين. إلّا أن الاستقرار في الشرق الأوسط لا يتم بمجرد حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، إذ ثمة قضية كردية نشطة يجب المساهمة في حلها ودفع الدول القومية للقبول بالجلوس مع حركات التحرر الكردية، وإلّا فقد تشهد المنطقة حروباً إثنية لا يمكن توقّع شدّتها وتأثيراتها، خاصة وأن الحروب الأخيرة على الكرد أفسحت المجال لظهور سلالات جديدة من الحركات الإرهابية العابرة للحدود كداعش وغيرها.