ماذا تعني حرب غزة بالنسبة لإيران

هنأت إيران رسمياً حماس على “نجاحها” العسكري، وسكان غزة على “صمودهم”. بالمقابل، أعرب الرئيس الإيراني عن مخاوفه بشأن التصعيد الإقليمي، وقام الدبلوماسيون الإيرانيون، من خلف الأبواب المغلقة، بتوبيخ قادة حماس خلال زيارة لهم إلى طهران لعدم تقديم أي معلومات مسبقة حول خطواتهم. ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحاً حول الدور الذي تلعبه فلسطين بشكل عام وحماس بشكل خاص في السياسة الإقليمية الإيرانية.

تجمع جمهورية إيران الإسلامية، في سياستها الخارجية واستراتيجيتها، بين النهجين الأيديولوجي والجغرافي على أساس صيغة (4×3) البسيطة، والتي تقوم على تطبيق أربعة مبادئ أيديولوجية على ثلاث مناطق. ولعل ما يعكس الواقع هو أن الإيرانيين يجمعون، وبشكل انتهازي، بين أيديولوجيتين ثوريتين (أي ضد الوضع الراهن) وأيديولوجيتين محافظتين (أي الحفاظ على الوضع الراهن). الأيديولوجيات الثورية هي الإسلام السياسي، أي آية الله الخميني (الخمينينية)، الذي يهدف إلى توحيد الشيعة والسنة، ولكنه شيعي في الأساس، ومدرسة العالم الثالث، وهو من بقايا اليسار الماركسي العالمي في السبعينيات، والذي يستهدف بشكل رئيسي الجنوب العالمي. والأيديولوجيات المحافظة عبارة عن نزعة قومية إيرانية معادية للأجانب وللمذهب الشيعي التقليدي الذي يركز على رجال الدين.  

تقوم إيران بتطبيق المبادئ المذكورة على ثلاث مناطق: الجوار المباشر ومنطقة الشرق الأوسط والجنوب العالمي (ما يسمى بالدول النامية). واعتماداً على الظروف وتاريخ العلاقات الثنائية، قد تطبق إيران أكثر من نهج أيديولوجي على منطقة أو بلد معين. في مثل هذه الحالة، يكلف الإيرانيون مؤسسات مختلفة بتنفيذ سياستهم أو سياساتهم.  

ويرد المزيد من المبادئ التوجيهية الاستراتيجية في الدستور الإيراني الذي ينص على الحياد بمعنى عدم الانحياز ودعم حركات التحرر في جميع أنحاء العالم كسياسة خارجية ومبادئ استراتيجية (المواد 152-154). لكن في الواقع، تحاول طهران استخدام المنظمات الأيديولوجية الثورية في الخارج كعناصر لاستعراض القوة واحتواء التهديدات المحددة والمشتبه بها للبلاد. وتم حل التوتر المتأصل بين التوجهات الأيديولوجية أو الثورية والبراغماتية أو المحافظة في عام 1984 عندما قام الإيرانيون باعتماد مبدأ النفعية أو المصالح النفعية (مجمع تشخيص مصلحة النظام) بحيث تبقى الأولوية التي تعلو فوق كافة المصالح إلى بقاء النظام ومنع الهجوم عليها.  

وهذا ينطبق أيضاً وبشكل أساسي على العلاقات مع إسرائيل. ووجود الدولة مرفوض من حيث المبدأ، لكن الثوار الإيرانيين تعاونوا مع «الكيان الصهيوني» خلال الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988)، ولو بشكل سري. وتلقت إيران أسلحة وإمدادات طبية خاضعة للعقوبات من الدولة اليهودية. في ذلك الوقت، كانت إسرائيل تنظر إلى عراق صدام حسين، الذي كان يتباهى بموارد عسكرية هائلة وعمل كحامل لواء القومية العربية والدولة الراعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتباره تهديداً أعظم من الثوار الفوضويين في طهران. لكن البراغماتية الإسرائيلية انتهت بسرعة عندما تبين أن حزب الله اللبناني يحمل أسلحة إسرائيلية أرسلتها إيران. وكان تنظيم حزب الله اللبناني واحداً من الميليشيات العديدة التي أنشأتها إيران في أوائل الثمانينيات لتكون بمثابة أدوات لتصدير الثورة، وبقيت الأكثر أهمية.

ومن بين هذه الميليشيات الأخرى منظمة بدر، المكونة من متطوعين عراقيين شيعة خلال الحرب الإيرانية العراقية. وفي بعض الأحيان، حتى الجماعات السنية استلهمت من الثورة الإسلامية وأنشأت جماعاتها المسلحة الخاصة. والأكثر أهمية هي حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية التي تتخذ من غزة مقراً لها، والتي تأسست عام 1981، والتي تبقى الجماعة الفلسطينية التي تتمتع بعلاقات أوثق مع الإيرانيين. ومع ذلك، فإن أهمية الجهاد الإسلامي في فلسطين سرعان ما تفوقت عليها فرع من الأفرع الفلسطينية لجماعة الإخوان المسلمين: وهي حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي تأسست في عام 1987 خلال الانتفاضة الفلسطينية ضد الإسرائيليين.

بالنسبة لإيران، لم تكتسب حماس أهمية إلا بعد الحرب الإيرانية العراقية، عندما حاولت طهران استمالتها للانضمام إلى “محور المقاومة”. وكان الهدف من “المحور” المذكور هو المساعدة في إعادة تنظيم علاقات إيران مع جهات فاعلة متباينة سياسياً وأيديولوجياً على أساس المعارضة المشتركة ضد إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ومن خلال عملية إعادة التنظيم هذه، تمكنت طهران من إخفاء الاختلافات الداخلية الرئيسية بين النظام العلماني والقومي العربي في دمشق وحزب الله الثوري الشيعي والجهاد الإسلامي في فلسطين ولاحقاً حماس وأعطت هذا التحالف الملائم معنى أيديولوجياً.

بالنسبة لحماس، كان التقرب من طهران وسيلة مريحة لإعادة تأكيد دورها السياسي في المنطقة عندما أغلقت القوى العربية أبوابها أمامها. وكان محور المقاومة، الموجه خارجياً ضد إسرائيل، في المقام الأول تحالفاً ضد المملكة العربية السعودية ودعمها لعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، والذي تجاهل مصالح حماس ورفض تورط إيران، ولهذا السبب تحدث السعوديون عن “الهلال الشيعي” الذي يجب أن يتم صد نفوذه.

الانهيار البطيء لعملية السلام في أواخر التسعينيات والإطاحة بحركة طالبان في أفغانستان عام 2001 وصدام حسين في العراق عام 2003 والحرب الإسرائيلية ضد حزب الله في جنوب لبنان عام 2006، مكّنت طهران من لعب دور أكثر نشاطاً في الصراع. المنطقة (في جملة أمور، لأن حلفاء طهران مثل فيلق بدر تولوا وظائف مهمة في جهاز الأمن العراقي). وفسرت طهران ما يسمى بالربيع العربي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على أنه “صحوة إسلامية” ستنتهي بإسقاط جميع الأنظمة الموالية للغرب وغير الإسلامية. ومع ذلك، كادت سوريا، حليفة طهران، أن تسقط أيضاً، واضطرت إيران، إلى جانب روسيا، إلى حشد كل القوات التي يمكنها إرسالها لإبقاء بشار الأسد في السلطة.

وتتألف القوات المذكورة من ميليشيات شيعية من العراق (متحدة في ظل لواء أبو الفضل) وأفغانستان (لواء فاطميون) والهند (لواء زينبيون) بالإضافة إلى وحدات من الجيش النظامي (عناصر من الفرقة 65 المحمولة جواً)، ووحدات احتياطية مدربة جيداً من قوات الحرس الثوري الإسلامي مثل وحدتي “صابرين” و”فتحين”، ووجود استخباراتي قوي وبالطبع حزب الله اللبناني. وتمكنوا، بالتعاون مع روسيا، من إبقاء الأسد في دمشق، لكن الصراع المستمر منذ عقد من الزمن والحرب المستمرة استنزفت قوة النظام المعزول دولياً. ولم تنجح طهران في الحرب ضد ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية إلا أن حلفائها العراقيين تعاونوا مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مما أدى في النهاية إلى تحرير الموصل في عام 2017.

تبين أن دعم إيران غير الكامل للحوثيين (أنصار الله) في اليمن كان خطأً فادحاً. ولا توجد لطهران علاقات خاصة مع اليمن ولا حتى مع الحوثيين الشيعة، في حين أن الوضع في اليمن يؤثر بشكل مباشر على الأمن الداخلي للمملكة العربية السعودية وشؤونها الداخلية. ومن هنا قام الإيرانيون بإزعاج جارتهم القوية السعودية دون أن يكون لهم سيطرة على خطوات واستراتيجيات الحوثيين، حليفهم المزعوم. ولا يزال من غير الواضح ما هو الدور الذي لعبته طهران في الهجمات الصاروخية اليمنية في عامي 2018 و2019. ومع ذلك، في العام التالي 2020، أدرك الجانبان أنهما كانا في مأزق استراتيجي. كما عانت طهران من القتل المهين لجنرال بارز على يد الولايات المتحدة، وخسرت سمعتها بشكل كبير بين سكانها عندما أسقطت بطريق الخطأ طائرة ركاب أوكرانية في نفس العام.  

وحاول إبراهيم رئيسي، الرئيس الجديد، تحسين العلاقات مع جيرانه العرب ومع أفغانستان. وتم تخفيف حدة الدعاية المناهضة للسعودية، وانتقد الإيرانيون بحذر تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لاحقاً. وفي أفغانستان، تم تطبيع العلاقات مع العدو اللدود طالبان بعد أن استولوا على السلطة في كابول في أعقاب إعادة الانتشار المفاجئة للولايات المتحدة. ولاحظت طهران بارتياح أنه لم تحاول أي دولة إسلامية استغلال الوضع خلال اضطرابات 2022/23.

وقد أنهى هذا أيضاً عقوداً من السياسات الكارثية التي لم تخجل فيها إيران والمملكة العربية السعودية من إثارة الاضطرابات بين الأقليات الطائفية لدى كل منهما. وبعد الوساطة الصينية، قررت طهران والمملكة العربية السعودية تطبيع علاقاتهما الثنائية مرة أخرى في آذار/مارس 2023. وقد أصبحت هذه الخطوة أسهل بفضل تغيير المسار السعودي، الذي، لأسباب لا علاقة لها بإيران، رأى أن مصالحه تتحقق بشكل أفضل من خلال إعادة الدكتاتور السوري بشار الأسد إلى الحظيرة العربية. وقد تطورت العلاقات الإيرانية السعودية الآن بشكل إيجابي دون أن تؤثر على العلاقات السعودية الإسرائيلية.  

لقد فاجأ هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 إيران بقدر ما فاجأ الجميع. ومنذ ذلك الحين، تحاول طهران منع انتشار الصراع. وهي تجد نفسها في نفس القارب مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لأن القلق في طهران بشأن التصعيد المحتمل الذي لا يمكن السيطرة عليه يفوق الشماتة بشأن مشاكل إسرائيل. وهكذا، تضمن طهران، من بين أمور أخرى، عدم خروج المناوشات بين حزب الله اللبناني وإسرائيل عن السيطرة.

وعلى المدى المتوسط، يمكن الافتراض أن الإيرانيين سيعيدون تركيز سياساتهم على الاقتصاد. وهذا يتطلب علاقات جيدة مع الدولتين المجاورتين، الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، اللتين تتمتعان بالقوة بشكل خاص في القطاع المالي. وفي الوقت نفسه، أدركت طهران أن الحرب السورية والتصعيد الأخير في غزة أثبت بأن مفهوم محور المقاومة لم يعد مناسباً كإطار للعمل الاستراتيجي. لذلك من المتوقع أن تعتمد طهران على وقف التصعيد مع الرياض في مجالات أخرى أيضاً.  

كتبه ولتر بوش لمجلة زينيت وترجمته نورث برس