المقدمة والمنهجية
إن استمرار الحرب في سوريا منذ أكثر من عقد، نجم عنه تدهور في الوضع الاقتصادي في عموم البلاد، حيث أن الفقر والعوز أصاب أكثر من 90 %من سكان سوريا، وباتت مئات الآلاف من الأسر قابعة تحت خط الفقر في المخيمات ودور السكن غير الآمنة بفعل الحرب، الأمر الذي دفع النساء والفتيات إلى مواجهة أصعب أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي، ولا سيما في ظل ندرة وصولهن للموارد وتنميط أدوارهن، ووجود منظومات قانونية لسلطات عدة لا تكفل لهن الرعاية الاجتماعية والتمكين الاقتصادي والقانوني الكافي، حيث أن العديد من النساء العاملات في قطاعات الزراعة والصناعة وخدمة المنازل، بتن عرضة للاستغلال من أرباب العمل عدا عن التمييز السلبي في ظروف العمل، ليتحول العمل عن كونه حق من حقوقهن إلى انتهاك لكرامتهن، ولا سيما النساء والفتيات ممن يتحملن مسؤولية أسرهن بعد فقدان معيلها ويعملن دون عقود تكفل حقوقهن، فيكابدن الشقاء ومصاعب جمة لكسب لقمة العيش، كالحرمان من الأجور المنصفة مع ساعات عمل طويلة ومخاطر قانونية وصحية تعانيها النساء العاملات في مهن غير نمطية بدأت تنتشر على نطاقٍ واسع بعد الحرب في سوريا.
وبغرض إعداد التقرير قابل قسم الرصد والتوثيق في وكالة نورث برس، 9 نساء من العاملات في مختلف المناطق في سوريا، من أجل تسليط الضوء على أبرز أشكال معاناتهن كفئات هشة اقتصادياً في سوق العمل، ومدى تقاطع الاضطهاد الاقتصادي مع الجهل القانوني وأثر ذلك على كل أصعدة حياتهن، في اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة والذي يصادف الخامس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام.
أجورٌ بخسة
“أعمل في مجال الزراعة على مدار عدة أشهر بمختلف مواسمها (زراعة الخضار – قطاف الخضار – حصاد السمسم ..أعمال زراعية أخرى مرتبطة بالموسم الزراعي) لمدة عشر ساعات يومياً بشكل وسطي وبأجر يومي قدره 20 ألف ليرة سورية ويعد قليلاً جداً مقارنة مع عدد ساعات العمل في ظل ارتفاع الأسعار”. هذا ما قالته أمينة حسن (42 عاماً) من قرية القنايا بريف كوباني الغربي شمالي سوريا، والمسؤولة عن إعالة أربع بنات بينهما طفلتان كون زوجها متوفٍ، ما جعلها مضطرة إلى هذا العمل الشاق والمنهك لصحتها البدنية.
وأضافت أمينة: “أتعرض لضغوط نفسية وجسدية، فبعد انتهاء العمل الزراعي أباشر بالأعمال المنزلية من إعداد الطعام وغسل الثياب وأعمال منزلية أخرى، تقع جميعها على عاتقي لتأمين الراحة لأسرتي”.
الكثير من النساء تدفعهم قلة الحيلة نتيجة الحاجة والفقر وعدم استكمال المراحل التعليمية إلى تحمل أعباء العمل بأجور متدنية، وهذا ما عللت به أيضاً السيدة أمينة قائلة إن “وارد العمل اليومي في الزراعة يكاد يؤمن احتياجاتي الغذائية، وسبب تحملي هو عدم توفر فرص عمل بديلة بأجور أفضل كوني لا أجيد القراءة والكتابة”.
كما أن معاملة صاحب العمل تختلف مع العاملات ويتخللها التمييز وعدم المساواة وهذا ما شهدته أمينة، حيث ذكرت “البعض كن يسترحن لمدة ساعة خلال العمل اليومي، بينما أخريات يعملن بشكل متواصل، ويطالبهن صاحب العمل بالإسراع في العمل”.
وكحال سابقتها، وقبل طلوع شمس كل صباح تخرج فاطمة الموسى (31 عاماً) من خيمتها على الحدود السورية التركية قرب بلدة أطمة شمالي إدلب، إلى الشارع الرئيسي تنتظر وصول سيارة “ورشة العمل” للذهاب إلى الأراضي الزراعية لقطاف محصول الزيتون من الساعة السابعة صباحاً حتى الساعة الرابعة بعد العصر، مقابل أجر يومي لا يتجاوز في أحسن حالاته الـ50 ليرة تركية أي نحو 1.6 دولار أمريكي، إذ ترى نفسها مجبرة على العمل بذلك الأجر لإعالة أطفالها الخمسة وزوجها المصاب نتيجة الحرب والمريض أيضاً بالسكري.
تقول فاطمة وهي من ريف حماة الشمالي، إن العمل لأكثر من 8 ساعات يومياً يرهقها تماماً، لا سيما وأنها تعود إلى المنزل وتجده بحالة يرثى لها نظراً لكون أطفالها صغاراً وزوجها لا يستطيع الحركة، ويبدأ عملها المسائي عند عودتها إلى المنزل لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة في الطبخ والغسيل وجلي الأطباق وجلب الدواء لزوجها، متحملة بذلك ما لا يتحمله أي أحد، على حد وصفها.
كما أن عليها العمل في قطاف الزيتون بشكل يومي ولا يمكن أن يمر يوم دون عمل، نظراً لحاجتها الماسة لتدبر مصروف منزلها وعائلتها وهذا ما أكدته بقولها: “إني مجبرة على العمل كوني مسؤولة عن منزل كامل ولا معيل غيري، وإن الأجر اليومي الذي أتقاضاه بالكاد يغطي نصف مستلزماتنا اليومية من خبز ومتطلبات المنزل عدا أدوية زوجي”.
ويعود سبب تحمل فاطمة هذا العمل المرهق بدلاً من مزاولة عمل بمجهودٍ أقل وأكثر نفعاً/ إلى تجربة سابقة حيث ذكرت “حاولت كثيراً العمل في مجالات أخرى لكنني لم أستمر لأن تلك الأعمال غالباً ما تكون مختلطة، وزوجي لا يسمح لي خاصة بعد أن حاول أحد الأشخاص ممن كنت أعمل معهم سابقاً في أحد المطاعم التحرش بي”.
تعنيف واستغلال
نزحت فاطمة العلي (28 عاماً) من ريف حلب الجنوبي، وهي أم لأربعة أطفال، والدهم توفي بسبب قصف القوات الحكومية، وتسكن برفقة أطفالها في مخيم ترندا بمنطقة عفرين بريف حلب الشمالي.
وعن الظروف التي أجبرتها على العمل ومن ثم التحديات التي عانتها، قالت السيدة فاطمة، إن “المساعدات الإنسانية التي كانت تقدمها المنظمات للعوائل النازحة لم تكن تكفينا. فكنت مجبرة على العمل بورشة خياطة بحي الأشرفية في عفرين وبأجور زهيدة، ولأنني امرأة فقدت زوجها تعرضت للتحرش من قبل المشرفين على العمل، وأيضاً استغلوني في خدمة ضيوفهم في الورشة وعلى إثر ذلك تعرضت لمضايقات لفظية عديدة”.
فالعديد من النسوة تعانين من واقع مليء بالقهر والاستغلال حينما تصبح هي المعيل الوحيد في تدبر شؤون أسرتها، فكما روت فاطمة: “كوني المعيل الوحيد لأطفالي لعبت دور الأم والأب في تدبر شؤون خيمتي من تنظيف وطبخ واهتمام بالأطفال، وكنت أمضي أغلب الليالي في البكاء من شدة القهر والحسرة على أولادي كونهم يعيشون يتامى ولا أستطيع تأمين كل ما يحتاجونه، لأن مجموع ما أتقاضاه في الأسبوع، على أن أعمل في اليوم لمدة عشر ساعات، يبلغ ٣٠٠ ليرة تركية”.
اعتداء على الحقوق
“رضيت بأجر زهيد في منزل عجوز لكن ابنتها طردتني وعليّ البحث عن عمل آخر، لكن خياراتي محدودة فأنا لا أملك شهادة تؤهلني للعمل في المؤسسات الرسمية ولا أمتهن أيّة حرفة”، هكذا شرحت وداد معاناتها.
ولطالما اعتقدت وداد (47 عاماً) من القامشلي، أن عملها كمدبرة منزل سيستمر في دار أحد العجزة بمدينة القامشلي، إلا أنه وبالرغم من زهد الأجر الذي لا يمكن أن يقبله غيرها، تعرضت وداد للطرد التعسفي دون سابق إنذار ودون تعويض، لأن عملها لم يكن رسمياً، ولم يكن ثمة عقد يكفل حقوقها من اشتراط (مدة زمنية للعمل وبدل تسريح) فوجدت نفسها فجأةً عاجزة ومضطرة للبحث من جديد عن عمل آخر.
الإطار القانوني
ورد في المادة 23/1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق المرأة في العمل وتكافؤ الفرص، وورد ذلك بشكل صريح في المواد 19 و33 و40/1 من الدستور السوري الذي نادى بالمساواة بين الجنسين في الحق بالعمل وتولي مختلف الوظائف، لكن الكثير من أشكال العمالة المنتشرة حديثاً في سوريا هي عمالة غير منظمة وخارج حساب الدخل الوطني والاقتصاد الرسمي وغير مقوننة.
ولعل تشغيل النساء والفتيات دون عقود تكفل وتوثق حقوقهن الصحية والتقاعدية يعرضهن للغبن في الأجر وكذلك في تعويض التسريح، وتجدن أنفسهن تحت رحمة رب العمل. فقد تفقد عملها لأبسط الأسباب الكيدية كرفضها التحرش وسواه من الأسباب التي بالإمكان تفاديها. لو يتم مأسسة وتفعيل مشاريع التمكين الاقتصادي التي تتكفل حالياً بعض منظمات المجتمع المدني بتوفيره ودعمه للقضاء على الأمية المهنية بالإضافة لمكافحة التسرب التعليمي الرسمي واستكماله بمختلف المراحل، فقوة عمل المرأة وتحقيقها الاستقلال الاقتصادي يجب أن يكونا محميان بموجب نصوص قانونية جلية من أجل تقليل مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي.
يعتبر استغلال صاحب العمل لجهود النساء العاملات بأجور متدنية غبنا حقوقيا ويصنف كعنف اقتصادي وأحد أشكال التمييز الذي يطال المرأة في سوق العمل المنفلت من حيث معدل الأجور وساعات العمل وحقوق العمال والعاملات لاسيما بعد عام 2011 في ظل سيطرة عدة سلطات لكل منها منظومة قانونية، يتخللها فراغ تشريعي وتهرب ضريبي وكل ذلك عوامل تفتح المجال لاستغلال عمالة النساء والفتيات والقاصرات بظروف عمل لا إنسانية لا تصون كرامتهن، عدا عن هدر حقوقهن وسط انعدام المساواة والتمييز الجندري المتأصل.
تعتبر سوريا طرف في العهدين الدوليين لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية منذ عام 1976 وصادقت على اتفاقية العمل الدولية رقم 111عام 1958 واتفاقية العمل الدولية رقم 100 بخصوص المساواة في الأجور عام 1951/ المادة 2/.
كما صادقت على اتفاقية سيداو عام 2003 والمعلوم أن اللجان التعاقدية المعنية بمتابعة تنفيذ الاتفاقيات والمعاهدات الدولية تطالب الدول المصادقة بتقديم تقرير وطني وتقرير ظل كل أربع سنوات، لكن هذه التقارير لا تراعى فيها الشفافية والإحاطة الكاملة المستنيرة بكل جوانب معاناة النساء الكادحات، فحتى هذا التاريخ ثمة نسوة وفتيات لا يسمح لهن الذكور في العائلة بحرية التصرف بأموال حصلن عليها من عملهن، كما لا تتقاضى النساء والفتيات أي أجر عن دورهن الرعائي والمجتمعي ولا يدخل ذلك في حساب الناتج القومي، عدا عن تشغيل أرباب العمل لعشرات الآلاف من الفتيات القاصرات في أعمال تشكل خطراً على صحتهن البدنية والنفسية ومن بينها العمل في الدعارة والتسول المقنع.
كل ذلك يستدعي إعادة النظر بكل التشريعات النافذة الناظمة لحقوق العاملات لتوفير حماية أوسع وتمكين معرفي ومهني أفضل يراعي الأدوار الجندرية التي عكست خلال الأزمة السورية، والتي تعتبر من زاوية ما تطوراً في مسيرة إلغاء التنميط الممارس بحق المرأة في كل المجالات.