حرفيون وتجار يضخون أسواق الإدارة الذاتية بذهب مغشوش

تحقيق – زانا العلي

في كل مرة يقرر فيها “علي” دمغ بضاعته من الذهب لدى مديرية المعادن في الرقة شمالي سوريا، يحدث دائماً ما يخشاه، إذ لطالما أظهرت نتائج التحليل احتواءها على كميات مغشوشة تسببت بخسارته مبالغ طائلة.

منذ عام 2014, وقع الصائغ في مصيدة الاحتيال مراراً على يد تجار، كما وجد نفسه في كثير من الأحيان ضحية صفقات مغبونة يحصل عليها من سكان محليين، وخسر جراء ذلك حتى الآن ما لا يقل عن نصف كيلوغرام ذهب.

لكن ما تكبده علي (40 عاماً)، ليس سوى جزء من الخسارة التي مني بها كثيرون من أقرانه من أصحاب المحال والصاغة الذين وقعوا ضحية عمليات احتيال أو صفقات بيع مماثلة.

فمنذ استحداث الإدارة الذاتية، مديرية المعادن الثمينة، في كانون الأول/ديسمبر 2021، ضبطت 289 عملية غش وتلاعب بالمعدن الثمين.

لأكثر من ثمانية أشهر تتبع معد التحقيق حركة أسواق الذهب، وتمكن من الحصول على وثائق رسمية وشهادات أوصلتنا إلى معطيات تفيد بانتعاش عمليات التلاعب.

تكشف الوثائق وتقاطع شهادات، عن وجود ورشات تصنيع غير مرخصة، تستفيد من غياب الرقابة في المربعات الأمنية التابعة لحكومة دمشق في كل من الحسكة والقامشلي، إضافة إلى حلب، وتضخ في أسواق الإدارة الذاتية بضاعة مغشوشة، عبر شبكة تجار  يتنقلون بين مناطق السيطرة المختلفة.

خسارة آلاف الدولارات

كانت آخر خسارة تعرض لها “علي” في منتصف عام 2021 عندما أتلفت مديرية المعادن الثمينة 382,99 غراماً من بضاعته، بسبب “عدم مطابقتها للمواصفات”.

تشير وثيقة ضبط خاصة حصل معد التحقيق على نسخة منه، إلى أن الكمية التي أحضرها الصائغ للمديرية، على أنها من عيار 21 قيراط، كان عيارها في الحقيقة 15 قيراطاً.

ويقول الصائغ إنه منذ عام 2014 تعرض مراراً كما الكثيرين من الصاغة لعمليات غش تسببت بخسارته مبالغ تقدر بنحو 60 ألف دولار أمريكي.

بحسب “علي” فإنه إبان سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على المنطقة، اشترى ست كيلوغرامات ذهب من عيار 21 قيراطاً، إلا أنه تفاجأ بعد إرسالها إلى جمعية الصاغة في حلب لتذويبها وإعادة تصنيعها، أن عياره كان 19 قيراطاً.

والقيراط مقياس لدرجة نقاوة المعدن، حيث يقال عن الذهب الصافي إنه من عيار 24 قيراطاً، وكل ما كانت السبيكة أقرب إلى 24 قيراطاً يعنى ذلك أنها تحتوي على نسبة أعلى من الذهب، وبذلك تصبح أغلى وأثمن. ويخلط الذهب عادةً بمعادن أخرى لتزيد من صلابته، لأن الذهب النقي في حالته الطبيعية يمتاز بليونة واضحة.

ويعود انتشار ظاهرة الذهب المغشوش إلى السنوات الأولى لاندلاع الحرب في سوريا. إذ بات عيار 14 قيراط يباع لأصحاب المحلات و مقتنو الذهب على أنه عيار 21 قيراطاً، العيار الأكثر تداولاً في البلاد، بحسب مديرية المعادن وأصحاب محلات الذهب.

أكثر من 16 كيلوغراماً مغشوشاً

في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2021، استحدثت مديرية المعادن الثمينة في مبنى النقد والمدفوعات في الرقة.

تضم المديرية ست مراكز في الرقة والقامشلي ومنبج والطبقة والحسكة والقامشلي وكوباني، تعمل على تسيير أعمل المراكز التابعة لها، والإشراف على جميع أسواق الذهب، بحسب النظام الداخلي لمديرية المعادن

وألزمت الإدارة الذاتية، الصاغة بفحص الذهب الموجود لديهم ودمغه. لكن غياب الرقابة خلال السنوات الماضية ساهم في انتشار البضاعة المغشوشة، طبقاً لصاغة في الرقة.

وفق قانون تنظيم تجارة المعادن الثمينة وتصنيعها، والذي يحمل رقم \6\ لعام 2023، والمادة \9\ المرتبطة ببيع المصوغات، “لا يجوز للتاجر أو الصائغ بيع المصوغات أو عرضها أو حيازتها بغرض البيع إلا إذا كانت مدموغة من قبل مديرية المعادن الثمينة في شمال وشرق سوريا”.

وتقول المادة رقم \10\ من القانون ذاته “لا يجوز لمديرية المعادن الثمينة دمغ المصوغات إلا بعد فحصها والتأكد من مطابقتها لعيارها الحقيقي من بين العيارات المعتمدة من قبل المديرية”.

عند ضبط بضاعة مغشوشة وفحصها بواسطة أجهزة خاصة وتبين نسبة الغش فيها، تقوم المديرية بتكسيرها دون مصادرتها ثم تعيدها لصاحبها بحيث لا يستطيع بيعها مجدداً، إلا بعد تذويبها لدى الورشات وإعادة تصنيعها، وفق العيار الذي تحدده أجهزة مديرية المعادن. بحسب المادة /13/ من القانون والتي ترتبط بمغايرة عيار المصوغات.

ويبلغ عدد محلات الذهب في شمال شرقي سوريا 227، وثماني ورشات للتصنيع، وهي 61 محلاً وورشة تصنيع واحدة في الرقة ودير الزور وأريافهما، 97 محلاً وست ورشة تصنيع في الحسكة والقامشلي وأريافهما، و69 محلاً وورشة واحدة في منبج وكوباني وأريافهما.

ومنذ كانون الأول/ديسمبر 2021، وهو تاريخ تأسيس مديرية المعادن الثمينة، ضبطت المديرية 289 عملية غش وتلاعب.

تكشف الوثائق أنه تم ضبط أكثر من 16 كيلوغراماً مغشوشاً خلال أقل من عامين فقط. حيث بلغت الكميات التي تم تكسيرها وإعادتها لأصحابها بحيث لا يمكن استخدامها، 16,619,51 غراماً.

كميات من الذهب المغشوش بعد تكسيرها من قبل مديرية المعادن الثمينة لعدم “مطابقتها للمواصفات”  – نورث برس

و يعاقب قانون تنظيم تجارة المعادن “بغرامة مالية تتراوح بين عشرة آلاف دولار أمريكي إلى خمسة وعشرين ألفاً، أو بالحبس مدة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات، أو بالعقوبتين معاً، كل من غش أو خدع في نوع أو وزن أو عيار المعادن الثمينة أو الأصناف المطلية أو المطعمة أو الملبسة. وكل من أحدث في المعادٍن الثمينة أو مصوغاتها بعد دمغها تعديلاً يجعلها غير مطابقة للعيار المدموغة به أو تعامل بها”.

من أين يأتي الذهب المغشوش؟

يفيد تقاطع شهادات أصحاب محلات وصاغة قابلناهم في الرقة والقامشلي بأن الذهب المغشوش يأتي عبر مناطق سيطرة حكومة دمشق، كما يأتي قسم منه عبر مناطق سيطرة المعارضة.

وتتدفق “البضاعة المغشوشة” إلى مناطق الإدارة الذاتية عبر تجار يتنقلون بين مناطق توزع النفوذ العسكري المختلفة في البلاد.

لكن حجم الكميات والتبادل التجاري الكثيف بين تجار الذهب في المناطق المختلفة يصعب مهمة كشف التجار الذين يضخون هذه البضاعة.

وفق محضر ضبط، قُيّد في 30 آب/أغسطس الفائت، استلمت مديرية المعادن “طوق كشريل” بوزن 19,63 غراماً من صاحب محل مجوهرات ضمن المربع الأمني الواقع تحت سيطرة حكومة دمشق في الحسكة، تبين أنه تم التلاعب بالقطعة بواسطة لحام من مادة النحاس.

وكان صاحب المحل قد اشترى القطعة على أنها عيار 21 قيراطاً وفق المحضر، يقول الرجل إن “الكثير من حالات التلاعب مصدرها المربع الأمني في الحسكة، فهو بؤرة لممتهني الغش من أصحاب ورشات التصنيع غير المرخصة”.

بحسب تقرير داخلي لمديرية المعادن، فإن تعدد مصادر الذهب الوارد إلى السوق من أبرز المشاكل الموجودة، حيث يتم توزيع الذهب على المحلات دون فحصه.

كما أن ضعف التنسيق بين مؤسسات الإدارة الذاتية مثل مديرية المعادن والجهات القضائية والأمنية ينتج مشكلة إضافية.

بحسب التقرير، فإن أكثر المناطق التي تساهم في انتشار الذهب المغشوش هي المربع الأمني في الحسكة.

إضافة إلى ذلك تعاني مديرية المعادن مع أصحاب محلات الذهب في منبج حيث يرفضون دمغ الذهب لديها بحجة “تأمين المصاغ لهم بدلاً من الورشات التي تقع خارج سيطرة الإدارة الذاتية، وذلك خوفاً من عدم تعامل الورشات الموجودة في مناطق سيطرة حكومة دمشق معهم”، وفقاً للتقرير.

في حين أن عدم توفر أجهزة فحص العيار وتحديده في المربعات الأمنية في الحسكة والقامشلي، يجعل من سوق الذهب فيها، بيئة خصبة للغش والتلاعب.

من يساهم في زيادة الانتشار؟

في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، ألقت قوى الأمن الداخلي (الأسايش)، القبض على متهم ببيع ذهب مغشوش في مدينة الرقة.

غالبية كميات الذهب المغشوش تحمل دمغة جمعية الصاغة في حلب

طلبنا مقابلة المتهم لمعرفة تفاصيل قصته، لكن طلبنا قوبل برفض رسمي لأن “القضية ما تزال منظورة أمام القضاء”.

وبحسب معلومات حصل عليها معد التحقيق من قضاة في الرقة، فإن المتهم أخذ الذهب من شخص في مدينة تل أبيض (تسيطر عليها فصائل سورية تابعة لتركيا)، بدلاً عن مبلغ كان أقرضه إياه، ثم جاء بالذهب ليبيعه في الرقة.

يقول القضاة، إن صاغة من ذوي الخبرة لاحظوا أن الذهب مغشوش فأخبروا الأسايش التي صادرت الكمية من المتهم وكانت تبلغ 101 غراماً من عيار  18، في حين أنه حاول بيعها على أنها عيار  21.

ففي حين أن اكتشاف هذه الحالة كان على يد صاغة يمتلكون خبرة في المهنة، فإن الكثيرين من الصاغة الآخرين لا يملكونها، ما يجعلهم فريسة سهلة للاحتيال.

من جهة أخرى، يفيد تقاطع شهادات أصحاب محلات، أن معظم الصاغة لا يملكون أجهزة فحص عيار المعدن.

وعادة يشتري الصاغة الذهب من تجار في السوق وسكان محليين، ويعتمد معظمهم على علامة الدمغة الموجودة على القطع.

والدمغة هي رسم أو نقش يختم به المصوغات، فإما أن تحتوي القطعة على علامة الدمغة أو العيار، أو كلاهما معاً. وهي وسيلة للتحقق من العيار القانوني.

وبحسب شهادات أصحاب محلات ومسؤولين في مديرية المعادن فإن غالبية كميات الذهب المغشوش تحمل دمغة جمعية الصاغة في حلب، “ما يعني أن هناك من يقوم بتزوير الدمغة الرسمية”.

ويشتري السكان عادة الذهب مرفقاً بفواتير من أصحاب المحلات، تتضمن وزن ونوع القطعة وعيارها، لكن تساهل أصحاب المحلات من جهة عدم طلب الفواتير المرفقة أثناء الشراء من السكان، يساهم في وقوعهم في الفخ.

فاتورة شراء كمية من الذهب في أحد محلات الرقة يبين فيها العيار والنوع كما هو متداول في الأسواق– نورث برس

وما يزيد الطينة بلة هو عدم قدرة السكان الذين يقتنون الذهب فضلاً عن أصحاب المحال، على تحديد فيما إذا كان ما اقتنوه سابقاً، أو ما سيقتنونه مستقبلاً مزيفاً أم لا، ما يرجح وجود كميات كبيرة مغشوشة لم تكتشف بعد.

تنويه: أخفيت أسماء أصحاب الشهادات بناءاً على طلبهم