خمسة أسابيع من الحرب في غزة

هناك قرارات تقود إلى الهزيمة، مثل قرار الرئيس المصري جمال عبدالناصر بسحب قوات الطوارىء الدولية من شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة في يوم 19أيار/مايو1967ومن ثم ما أتبعه بعد أربعة أيام بإغلاق مضيق تيران أمام السفن الاسرائيلية والسفن الأخرى الحاملة لبضائع آتية من، أو ذاهبة إلى، مرفأ إيلات. أتت الهزيمة هنا من أن القوة الذاتية لصاحب القرار لا تستطيع الحفاظ على الواقع الناتج عن القرار ولا حمايته، كما لايوجد جو دولي- إقليمي يساعد على ذلك، ومن أن العدو رأى في ذلك القرار مايتيح إنشاء فرصة سانحة لقلب الطاولة على صاحب القرار ولإنشاء واقع جديد على الأرض، وهو ماجرى من خلال حرب 5حزيران/يونيو1967التي شنتها إسرائيل أولاً على مصر ومن ثم على الأردن وسوريا.

بعد ساعات عدة من هجوم 7 أكتوبر 2023 العسكري الذي شنته حركة حماس على منطقة “غلاف غزة” أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن “إسرائيل في حالة الحرب” .

يمكن هنا استذكار أيام إسرائيلية صعبة، منها وأولها يوم 6 تشرين الأول/أكتوبر1973، لمّا شنت مصر وسوريا الحرب على إسرائيل وتقدم الجيشان المصري والسوري في الضفة الشرقية لقناة السويس وفي هضبة الجولان في يوم كان هجومه بمثابة مفاجأة عربية عسكرية استراتيجية لإسرائيل مترافقاً بفشل استخباراتي إسرائيلي بتوقع الهجوم، وثانيها يوم 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 لما اغتال أحد الإسرائيليين اليمينيين رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، ولكن بالتأكيد ليس يومي 19 أيار 1967 و23 أيار 1967 من الأيام الإسرائيلية الصعبة، بل أنتجا فرصة إسرائيلية لتوجيه ضربة للعرب توازي، والأرجح أقسى، من ضربة حرب 1948.

في هذا الإطار قالت وسائل إعلام اسرائيلية عديدة إن يوم 7 أكتوبر 2023 هو “اليوم الأكثر إيلاماً في تاريخ دولة إسرائيل” ليس فقط لأنه في هذا اليوم سقط أكبر عدد من القتلى الإسرائيليين بيوم واحد منذ عام 1948، ولكن أيضاً لأنه مثل عام 1973عبر عن فشل استخباراتي إسرائيلي كبير بتوقع ماحدث، إضافة إلى أنه، من خلال مثال مستوطنات غلاف غزة، يعطي صورة مسبقة لمستوطني الضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان عن الهشاشة المحتملة لوضعهم من الناحيتين العسكرية والأمنية، كما أن هجوم 7 أكتوبر يعطي صورة رمزية للعقل اليهودي المهجوس بالرموز عن أن هذا اليوم هو أول يوم منذ يوم 14أيار/مايو 1948 عندما أعلن دافيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل تستطيع قوة عسكرية عربية السيطرة ولو لساعات على أرض، تتجاوز مساحة قطاع غزة، من الأراضي التي قامت عليها دولة إسرائيل في عام  1948، فيما سيطر الجيشان المصري والسوري بحرب 1973على أجزاء من الأراضي المحتلة في عام 1967.

ولكن رغم كل ماسبق رأى الإسرائيليون في يوم 7 أكتوبر2023 فرصة سانحة، أولاً لإثبات أن هذا “المخفر اليهودي للمنطقة” الذي أنشأه الغرب الأوروبي- الأميركي ما زال قوياً بعد تراجع وظائفه بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 وبعد اهتزاز صورته في حرب 2006 بلبنان وفي حربي 2008-2009 و2014 بغزة عندما لم يستطع تحقيق الأهداف المعلنة في تلك الحروب الثلاثة وهو وفق ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه أرينز عن حرب 2006 “يعتبر هزيمة عندما لا يستطيع جيش نظامي تحقيق أهدافه أمام ميليشيا عسكرية “، وثانياً لتحقيق نصر عسكري  إسرائيلي يمحو آثار أو بعض آثار يوم 7 أوكتوبر لأن مستوى ضربة ذلك اليوم عسكرياً وسياسياً ورمزياً إن تركتها إسرائيل واكتفت بضربات موضعية لحماس كما في حربي غزة السابقات سيقود إلى هزيمة إسرائيلية كبرى .

في اليوم الأول لحرب 2006 أعلن رئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود أولمرت أن أحد أهداف الحرب  “هي القضاء على حزب الله” وفشل، وفي اليوم الأول لهذه الحرب أعلن الإسرائيليون أن هدف حربهم هو “القضاء على حركة حماس”. ما فعلوه منذ يوم 27 أكتوبر عندما بدأوا هجومهم البري يوحي بأنهم يريدون الاحتلال العسكري للنصف الشمالي من القطاع بما فيه مدينة غزة وإجبار الغزاويين هناك على النزوح للجنوب، كما أن القصف المتعمّد للمدنيين يدل على محاولة شق الحاضنة الاجتماعية عن حامل البندقية، وبسبب طبيعة الأنفاق التي أقامتها حركة حماس بمئات الكيلومترات يمكن أن تكون معركة مدينة غزة  المحاصرة ليست معركة كلاسيكية بين جيش نظامي وميليشيا بل حرب من نوع جديد.

ولكن هناك مؤشرات كثيرة على أن وضع حركة حماس الآن بهذه الحرب ليس فقط غير وضعية حزب الله في حرب 2006 بل حتى أن (حماس) ليست في وضعية الحربين السابقات في غزة، فهناك موافقة وفق بيان صدر من البيت الأبيض على أن ” ليس لحماس دور في مستقبل قطاع غزة “، وهناك توحد أوروبي غربي  مع واشنطن حيال هذا الهدف الإسرائيلي من هذه الحرب، وعلى الأرجح أن عواصم عربية كثيرة لن تكون حزينة إن انتهت (حركة حماس) على الأقل في معقلها الغزاوي القوي، وهو ما تشاطرهم  هذا الشعور، ولو بصمت، السلطة الفلسطينية في رام الله. كما أن طرح مشروع “إدارة دولية انتقالية لقطاع غزة بعد الحرب” يوحي بأن هناك جو دولي- إقليمي لايمانع في أن تمهد القوة العسكرية الإسرائيلية الطريق نحو تحقيق هذا المشروع، وخاصة بعد تصريحات أميركية وأوروبية وعربية وفلسطينية عن إعادة الربط المستقبلي بين قطاع غزة والضفة الغربية وفق “حل الدولتين: الفلسطينية والإسرائيلية”.

الملفت هنا ، في هذه الأسابيع الخمسة ، هو انكسار وانمحاء ” وحدة الساحات ” التي كان (محور المقاومة والممانعة) يضعها كشعار رئيسي له في السنوات السابقة، وعملياً تركت (حركة حماس) لوحدها أمام إسرائيل، ومايجري في جنوب لبنان وغيره لايستطيع تغطية الاتفاق الأميركي- الإيراني المضمر على  حصر الحرب في غزة وعدم توسيع الحرب هناك إلى حرب إقليمية، وهو ما يعني أن طهران ستفقد “امتدادها الفلسطيني الأقوى”، الذي كان منذ عام 2007 يجعلها جزءاً رئيسياً في معادلة الصراع الفلسطيني مع إسرائيل، بعد أن تركته يواجه مصيره لوحده، ولكن هذا يعني، على المدى القريب- المتوسط البعيد، ضربة معنوية – سياسية- عسكرية كبرى  للمحور الإقليمي الذي قادته طهران، ومن المحتمل أن يكون ما يجري في غزة هو بداية الجزر للمد الإقليمي الإيراني كما كانت غزة عام 2007 مع سيطرة حركة حماس على القطاع هي نقطة بداية المد الإقليمي الإيراني.

السؤال الرئيسي الآن: هل تستطيع حركة حماس في الأيام والأسابيع القادمة أن تكون في وضعية حزب الله عند نهاية حرب 2006؟ أم أنها أصبحت  بعد 7 أكتوبر 2023 في وضعية قريبة لوضعية الرئيس عبدالناصر في فترة 23 أيار/مايو إلى  5 حزيران/يونيو 1967؟