أردوغان العالق بين حماس وإسرائيل

انتظر أردوغان ثمانية عشرة يوماً من المواجهة الدموية الجارية بين إسرائيل وحماس، ليظهر إلى الإعلام، ويدلي بدلوه، ويحدد موقفه بعنوان أساسي هو أن “حركة حماس ليست إرهابية، وإنما حركة تحرير تقوم بحماية أرضها”، فضلاً عن عناوين فرعية، من أهمها، العودة إلى نهجه السابق في انتقاد إسرائيل، وإتهام الغرب بإزداوجية المعايير، والأهم إعلانه استعداد بلاده لأن تكون دولة ضامنة لأي اتفاق تسوية يتم التوصل إليه في المستقبل.

والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا انتظر أردوغان كل هذه المدة ليدلي بدلوه؟ وما هي حساباته ورهاناته من المواجهة الجارية بين إسرائيل وحماس؟ قبل محاولة الإجابة عن السؤالين، ثمة معلومة تقول إن زعيم حماس، إسماعيل هنية، كان في تركيا لحظة وقوع هجوم حماس على إسرائيل فجر السابع من الشهر الجاري، لكن سريعاً ما وصل الرجل إلى الدوحة، فما الذي دفع به إلى هذا الانتقال السريع من تركيا إلى قطر؟ لعل الجواب المختصر كما تحدّث محللون سياسيون، بينهم أتراك، هو أن الحكومة التركية لا تريد أو ربما لا تتحمل تداعيات ظهور هنية من تركيا في هذه اللحظة الحساسة من مرحلة ما بعد هجوم حماس، والحرب التي أعلنتها إسرائيل للقضاء على حكم حماس في غزة، وهو ما فهم بأن تركيا تخلت عن حركة حماس، قبل أن يغير أردوغان بخطابه الأخير الصورة.

بالعودة إلى محاولة فهم أسباب صمت أردوغان خلال الفترة الماضية، وحرص حكومته على إظهار الحيادية قبل أن تعلن عن دعمها لحماس، يمكن الوقوف عند الأسباب والعوامل التالية :        

أولاً- وجد أردوغان أن ما قامت حماس بها يصب في صالح منافسه الإقليمي (إيران)، وأن حماس اختارت الذهاب إلى المحور الإيراني على حساب تركيا التي دعمتها واحتضتنها مع باقي جماعات الإخوان المسلمين، منذ بدء ما سمي بالربيع العربي.                       

 ثانياً- حين التقى أردوغان نتنياهو قبل نحو شهر على هامش أعمال الجمعية العامة في نيوريوك، كان يأمل بفتح صفحة جديدة بين البلدين، صفحة تتوج بموافقة إسرائيل على المشروع التركي لنقل الغاز من إسرائيل إلى أوروبا عبر تركيا من خلال البحر الأبيض المتوسط، ولهذا الأمر أهمية بالغة لحكومته في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه تركيا. 

 ثالثاً- أدرك أردوغان جيداً أن طبيعة المواجهة هذه المرة بين إسرائيل وحماس مختلفة عن المرات السابقة، لاسيما بعد أن أعلنت الولايات المتحدة دعمها المطلق لإسرائيل، وأرسلت جنوداً وحاملات طائرات وأسلحة ومعدات متطورة إلى المنطقة تحسبا لتطورات دراماتيكية محتملة، على شكل توسيع لنطاق الحرب، وهو ما يحسبه أردوغان جيداً، حيث يبحث عن تفاهمات مع الجانب الأمريكي بخصوص القضايا الخلافية.                                

رابعاً- يدرك أردوغان تماماً أن الخطاب الشعبوي بخصوص القضية الفلسطينية لم يعد له قيمة بالنسبة لمستقبله السياسي، فالرجل وصل إلى ولايته الأخيرة حسب الدستور التركي، وعليه لم يعد يرى أنه بحاجة إلى حملات التعبئة في الداخل من أجل كسب الشعبية، وهو ما قوبل بانتقادات حادة من حلفائه، لاسيما دولت باهجلي، وفاتح أربكان، وصديقه السابق أحمد داود أوغلو، الذين وجدوا في الموقف التركي تراجعاً وخنوعاً، ولعل هذا الأمر كان له دور أساسي في عودته إلى خطابه الشعبوي بخصوص القضية الفلسطينية.                                                           

خامساً- إن توقيت المواجهة بين حماس وإسرائيل جاء في ظل تحول في السياسة الخارجية التركية، تمثل بتخليه عن جماعات الإسلام السياسي، لاسيما الإخوان المسلمين، لصالح إقامة علاقات قوية مع دول الخليج العربي ومصر وإسرائيل.   

في ظل هذه المعطيات التي كانت تشي بأن تركيا تحاول اتباع الحيادية إزاء المواجهة الجارية بين حماس وإسرائيل، جاء خطاب أردوغان يوم الأربعاء الماضي، ليغير من هذه الصورة، وهو خطاب جاء عقب فشل محاولته ركوب موجة إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة بالاشتراك مع مصر، وكذلك بعد فشل محاولة وزير خارجيته، هاكان فيدان، من خلال اتصال مع هنية، الدخول على خط الجهود الجارية للإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى حماس، واستثناء وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، تركيا من جولته في المنطقة، ولعل هذا الفشل هو ما دفع بأردوغان إلى خطابه الناري في الحديث عن القضية الفلسطينية والقدس والهجوم الكلامي على إسرائيل، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة، من ذلك: هل كلام أردوغان الناري الأخير هو للاستهلاك الداخلي بعد موجة الانتقادات له، أم أنه سيشكل محدِّداً للسياسة التركية إزاء إسرائيل في المرحلة المقبلة؟ والأهم كيف سيؤثر تبني أردوغان لحماس على علاقة بلاده مع إسرائيل والولايات المتحدة التي أعلنت دعمها المطلق لإسرائيل في حربها ضد حماس؟

في الواقع، من الواضح أن المواجهة الجارية بين إسرائيل وحماس، وضعت السياسة التركية في امتحان صعب ، والأصعب ماذا لو طلبت إسرائيل والولايات المتحدة من تركيا التخلي عن حماس، وربما وضعها على لائحة الإرهاب شرطا لفتح صفحة جديدة بينهما بعد هذه الحرب؟ عندها هل سيطلق أردوغان البراغماتي النار على أردوغان الأيديولوجي؟ سؤال يحمل الجواب عنه الكثير من الـ “نعم”، إذ لطالما عرف الرجل بالماهر في إقامة التحالفات والانقلاب على تحالفاته سواء أقيمت مع نفس الشخص أو نفس الدولة أو نفس المنظمة، وبالتالي فهو قادر على إطلاق الموقف وعكسه في نفس اليوم.