أحمد رحال
على مدار 75 سنة عاش الإسرائيليون على فكرة “الجيش الذي لا يُقهر”، والجندي الإسرائيلي الذي لا يُهزم، حتى أن البند الأول في عقيدة بناء الجيش الإسرائيلي تنص بالقول: بناء جيش يتمتع بالنوعية للتغلب على التفوق الكمّي العربي، بمعنى أن إسرائيل ستبني جيشاً قد لا يتناسب تعداد مقاتلوه مع قدرة العرب على تجنيد الأعداد الكبيرة، لكنه سيتمتع بخاصية النوعية والتفوّق العلمي والتفوق بالسلاح ستعطيه القدرة على هزيمة الجيوش العربية، وتستند إسرائيل بتلك النظرية على تجارب حروبها السابقة، ففي عام 1948 هزمت إسرائيل الجيش الذي شكلته الجامعة العربية وأطلقوا عليه اسم “جيش التحرير” ثم “جيش الإنقاذ”، ثم هزموا ثلاث جيوش عربية في حرب 1967 وفي حرب تشرين واجهوا مصر وسوريا وكل الدعم العربي لتلك الجبهات، لكن صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر حمل ما ينسف كل التاريخ الإسرائيلي عبر عدة مئات من عناصر كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، هؤلاء الذين قهروا الجيش الذي لا يٌقهر، وهزموا الجيش الذي تتفاخر به إسرائيل أنه مخصص لهزيمة كل العرب، وبات الجندي والضابط الإسرائيلي يؤخذ أسيراً من سريره.
خلال 25 دقيقة استطاعت مجموعات قتالية تتبع لحركة حماس من تدمير وخرق بنية نظام الدفاع الإسرائيلي، النظام الأحدث والأقوى بالعالم. نظام دفاعي يحوي كاميرات حرارية وأجهزة مراقبة رادارية وحساسات وكاميرات تلفزيونية. تقول إحدى المجندات الإسرائيليات التي عملت بمنظومة جهاز الدفاع في نفس المنطقة (غلاف غزة) بتسجيل مصور وهي غير مصدقة لما حصل فتقول: لدينا أجهزة تضرب إنذاراً إذا ما تحرك صرصار قرب السياج الفاصل مع غزة، عدا عن عيون تراقب ليل نهار وترصد كل شاردة وواردة، وتتابع: لم يكن مسموحاً لنا خلال مناوبتنا أن نلتفت يميناً أو يساراً بعيداً عن شاشة التلفاز التي تراقب الحدود والسياج لمدة 4 ساعات وهي مدة المناوبة، فكيف عبر هؤلاء لعدة كيلومترات، واجتازوا السياج، وفتحوا 18 فتحة بالجدار البيتوني العازل، وتسللوا إلى أسرّة الضباط والجنود وأخذوهم أسرى دون أي إنذار؟
الصدمة التي تلقتها القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية عبر عملية “طوفان الأقصى” أرعبتهم، وأعداد القتلى والأسرى أصابتهم بالهذيان؛ فثلاث جيوش عربية في حرب الأيام الخمسة عام 1967 لم تستطع أن تقتل أكثر من 700_ 800 إسرائيلي ما بين مدنيين وعسكريين، وحرب الـ33 يوم مع حزب الله عام 2006 لم يقتل خلالها أكثر من 165 إسرائيلياً، بينما حماس كان رقمها الأولي للخسائر يفوق 1350، قبل أن تتكشف أعداد جديدة ويرتفع مؤشر الخسائر، لكن الخسارة الكبرى للإسرائيليين كانت بفقدانهم الثقة بقيادتهم السياسية والعسكرية وبجيشهم.
يقول أحد جنرالات إسرائيل المتقاعدين، لقد فقدنا سمعة الجيش الذي لا يُقهر، وفقدنا معادلة الردع والرعب التي زرعناها في قلوب العرب وجيوشهم، وفقدنا ثقة الشارع الإسرائيلي، تلك المسلمات التي عملنا عليها لعقود انهارت بأقل من ساعة على يد حركة حماس، ويتابع لذلك يجب أن يكون الرد قوي وساحق لنستطيع استرداد بعض ما فقدناه.
في مفردات الإخفاق الإسرائيلي يأتي فشل عمل الاستخبارات العسكرية بالدرجة الأولى، فكيف غابت عمليات تحضير وتخطيط وتدريب عناصر حماس عن أعين الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وأجهزة رصدها التي تملك وسائط سطع جوية وفضائية وأرضية إضافة لأعداد هائلة من الجواسيس والعملاء؟
الفشل يمتد للمؤسسة العسكرية، والإخفاق العملياتي في تصدي معبر (إيريز) وأكثر من 11 موقع عسكري في غلاف غزة من وقف هجوم حماس، أما الفشل الأكبر والأخطر فظهر في هشاشة الجبهة الداخلية والخوف الذي عصف بمكونات المجتمع الإسرائيلي والتردد والفوضى، تلك الفوضى التي تسببت بمقتل أعداد إضافية من الإسرائيليين على يد الشرطة الإسرائيلية بحسب القناة 12 العبرية التي أكدت أن خوف الشرطة من مقاتلي القسام دفعتهم لإطلاق النار دون تمييز على كل المحاصرين بما فيهم المدنيين الإسرائيليين والأسرى الذين كانت تحتجزهم حماس ولم تنقلهم بعد لداخل قطاع غزة فقتلتهم جميعاً بما فيهم من أطفال ونساء ورجال إسرائيليين.
عملية “السيوف الحديدية” التي أعلنها الجيش الإسرائيلي ضد قطاع غزة، رداً على عملية “طوفان الأقصى” ما زالت في مرحلة الحشد والانتشار، ورغم تأكيد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت عن جاهزية جيشه إلا أن هناك حتى الآن تردد من القيادة السياسية باتخاذ قرار بدء اقتحام قطاع غزة، وبالرغم من القوة البحرية الضاربة، الأمريكية والأوروبية، التي سبقت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإسرائيل، وفيها أعلنت أمريكا وقوفها بكل مقدّرتها إلى جانب إسرائيل في حربها على حماس، بل ذهبت لأبعد من ذلك عندما أخذت على عاتقها ردع وضرب أي طرف ثالث يدخل في الحرب مع حماس ضد إسرائيل عبر جبهات أخرى، والمقصود بالأمر إيران وأدواتها التي أطلقت منذ أشهر ما يسمى “وحدة الساحات” (الجولان، جنوب لبنان، غزة، الحوثيين في اليمن، الحشد الشعبي في العراق، إضافة لإيران). ورغم التعهد الأمريكي والغربي، إلا أن قادة إسرائيل يدركون تماماً أن الغوص برمال ومستنقع غزة قد يكون مدمراً لمستقبلهم السياسي والعسكري، ومدمراً لبقاء دولة إسرائيل، لأن هناك كثر وصفوا الدعم العسكري الغربي بأنه خوف على إسرائيل وليس لمواجهة أعداء إسرائيل.
تقول بعض التسريبات إن خطة اقتحام غزة ستعتمد على التدمير الهائل الذي أحدثته عملية التمهيد الناري (الصاروخي والمدفعي) والتي ركزت رماياتها على القطاع الشمالي (بيت لاهيا، بيت حانون، جباليا، ومدينة غزة)، مع عدم إهمال القطاع الأوسط والقطاع الجنوبي، وأن الخرق والاقتحام الأساسي سيكون من الشمال باتجاه الجنوب باتجاه مدينة غزة، مع هجوم ينطلق من الشرق باتجاه الغرب في منتصف قطاع غزة باتجاه دير البلح، خان يونس، وهجوم جنوبي للمشاغلة والإرباك باتجاه رفح، لكن التوغل والاقتحام سيكون فقط بالنصف الشمالي من قطاع غزة، والهدف من الهجوم تدمير حماس، وتدمير المدينة ما تحت أرضية الواقعة في أنفاق تحت مدينة غزة، والتي تحوي خطوط انتاج الصواريخ والمسيرات والراجمات وكل العتاد العسكري الذي تصنعه حركة حماس، إضافة للمستودعات التي تخزن فيها تلك الأعتدة والأسلحة في أنفاق تحت الأرض بعيداً عن أعين استطلاع إسرائيل وبعيداً عن قدرة الطيران الإسرائيلي على استهدافها أو تدميرها.
الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد برغم كل التدمير الحاصل في قطاع غزة، وبرغم وجود أكثر من 4 آلاف شهيد فلسطيني، لأن الحرب التي تتحدث عنها حماس هي الحرب المباشرة وفق تكتيكات خاصة تضمنتها خطط معركتها الدفاعية، وإسرائيل التي دمرت آلاف المنازل ومئات الأبراج السكنية منذ بدء عملية طوفان الأقصى حتى الآن، تقول أيضاً أن زخم الانتقام والثأر الحقيقي لقتلاهم لم يأت بعد. فكم من الآلاف سيموت لتحقق تل أبيب ما تريد؟ ومتى يُدرك قادة إسرائيل أن زمن القوة ولى لغير رجعة، وأن العدل والحرية وإعطاء الشعوب حقوقها هو السبيل الأمثل للعيش بسلام والطريق الأفضل للاستقرار في المنطقة؟