السياسة والعمل السياسي هو مسرح الأفراد والأحزاب والدول، وطريقة إدارة شؤونها في الإخراج والأداء؛ فالسياسة بهذا المعنى هي إطلالة على الواقع وخلاصة الأفكار وكثافة الاقتصاد والقدرة على التعامل مع المعطيات والواقع. لكن، ثمة فارق جوهري بين سياسة تهدم وأخرى تبني. الأولى هي سياسة التحزّب والتوجه الوحيد الرافض لكل ما عداه لدرجة النفي من الحياة كما تفعل سلط العسكر، فيما الثانية هي سياسة قبول الاختلاف والبناء المتكامل والاتفاق الرضائي على إدارة شؤون الحكم والمؤسسات، وهذه لا تلغي التنافس الإيجابي على الاستحقاق والجدارة. الأولى محمولة على الهوى والرغبة المهووسة في السلطة وشهوة الحكم المفرد و/أو المطلق، فيما الثانية هي السياسة بوصفها “حرفة” كما أسماها ماكس فيبر، وحواملها رجال دولة يسعون إلى استحقاق إدارة شؤون البشر وتداول السلطة. وبين هذه وتلك فارق شاسع نعيشه ونتلمس نتائجه لليوم في سوريا والشرق عموماً.
في التاريخ المعاصر، مرت سوريا بلحظتين تاريخيتين، ساهم في انتاجهما رجال الدولة المؤسِّسين، فيما قضم هواة السلطة والحكم الفعل السياسي وحوّلوه إلى مصدر قوة وهيمنة. وهاتين اللحظتين تمثلتا بـ:
لحظة أولى مبكرة مثلتها الكتلة الدمشقية الوطنية، بفكرها التنويري ورغبتها المشبعة بالحرية برئاسة عبد الرحمن الشهبندر، حين تعاقدت مع فلاح سوري ثائر ضد الاستعمار الفرنسي، هو سلطان الأطرش ورفاقه ثوار جيل العرب عام 1925. تعاقدهم ذاك حمل عنواناً علمانيًا وطنياً عنوانه “الدين لله والوطن للجميع”، وغرضها التحرر من الاستعمار الفرنسي دون رغبة سياسية في التحصّل على حكم أو سلطة ما.
اللحظة الثانية والتي تابعت مسيرتها البنّاءة في إعادة احياء المسألة السورية، بعد أن تمكّن الاحتلال الفرنسي من نفي قادة الثورة السورية الكبرى عام 1927 إلى الأردن. تلك اللحظة التي أعلنها فارس الخوري، زعيم الكتلة الوطنية الدمشقية عام 1936، ومن على منبر جامعة دمشق، وعقب الانتهاء من الاحتفال بأربعينية رحيل إبراهيم هنانو معلناً العصيان المدني، المعروف بالاعتصام الستيني، حتى جلاء الفرنسيين عن سوريا. ومعلناً ميثاقاً وطنياً حدده بنقاط ثلاث: رحيل الاستعمار، والمساواة بين السوريين جميعاً، والأمة بمكوناتها المادية والروحية رهن لتحقيق ذلك.
بين هاتين اللحظتين مسار شاق من الثورة والفعل الثوري، فرغم خسارة الثورة عسكرياً، لم تتمكن سلطة الانتداب الفرنسي من ثني حملة لوائها عن فعلهم السياسي وبث فكرهم التنويري وإرادة التحرر وبناء الدولة. اللحظتين متكاملتين في المعنى والهدف، رغم اختلاف أدوات وطرق كل منهما. فالأولى فعل ثوري عسكري لم يكلل بالنجاح رغم حجم التضحيات الجسام، فيما الثانية فعل مدني سلمي أتى بإعلان معاهدة استقلال سوريا. واللحظتان كانتا استمراراً متتابعاً للوصول للاستقلال عام 1946.
لم تدم سوريا كدولة ديموقراطية تعيش حياة سياسية برلمانية نشطة سوى عقد من الزمن، مارس فيها السوريون دورهم السياسي في إدارة شؤون الدولة، فقد أتت حكومات الانقلابات العسكرية، وزمن هواة الحكم المفرد وشهوة السلطة، زمن سياسة السلطة وكسبها وحسب. حتى تمكُّن سلطة البعث العسكرية عام 1970 من الهيمنة المطلقة على الدولة، فأقامت مجزرة للسياسة والفعل الوطني امتدت حتى يومنا هذا.
منذ العام 2011 والسوريون يحاولون استعادة تلك اللحظتين، ولكن في زمن مختلف وبمعايير وأدوات مختلفة. اللحظة الأولى كانت في ساحات المدن السورية على كامل الجغرافية السورية في ثورة الحرية والكرامة وشعارها “الشعب السوري واحد”، كما تمكنت من تحقيق الاعتراف العربي والدولي باستحقاقها الوطني؛ فكانت مبادرة الجامعة العربية نهاية عام 2011، وبيان جنيف1 عام 2012، القاضية بتشكيل هيئة حكم كامل الصلاحيات، في حين أتى العنف والاحتراب البيني الميليشيوي متعدد الانتماءات والتدخل الإيراني والروسي لاحقًا، ليحول سوريا لمسألة دولية تتجاذبها أجندات ومصالح الدول، التي بنت أجنداتها على أرضية التباين السياسي الحاد بين أطياف المعارضة السورية المتعددة مقابل النظام وحلفائه. ولعل المؤشر الأوضح في هذا هو نمو التجاذبات والصراعات السياسية والأيديولوجية بين كل أنماط المعارضة السورية فيما بينها على أحقية التمثيل الأوحد لقيادة “الثورة” والمرحلة الانتقالية، جاء ذلك مترافقاً مع احتراب ميليشاوي متعدد الانتماءات يدعي كلٌّ أحقيته ومظلوميته، الأمر الذي أجهز على كل ما أنجزته الثورة في 2011/2012. والحال فإن الصراع على السلطة كان العنوان الهدام وكانت نتيجته تعدد سلطات الأمر الواقع الممتدة على كامل الجغرافية السورية. فيما بقي التغيير السياسي كاستحقاق وطني وفق القرار الأممي 2254/2015 القاضي بتشكيل “حكومة انتقالية” معضلة إلى اليوم لفقدانه كل نقاط قوته السابقة؛ فرغم تغيير جملة هيئة حكم كاملة الصلاحيات، بقي الانتقال السياسي عنواناً سورياً ساري المفعول يمكن البحث في إمكانية تحققه، ما يحيلنا مرة أخرى لفكرة الكتلة الوطنية والسياسة التي يضطلع بها رجال دولة فعليين، وليس سياسيون وكتل وأطراف متصارعة فيما بينها على هدف موهوم بسلطة بديلة عن سلطة النظام، وبطبيعة الحال فإن النظام مرتاح جداً لهذا التشتت الهدام.
اليوم، ثمة لحظة فارقة في مسار الانحدار هذا، لحظة تعيد إنتاج الثورة واستحقاقاتها الوطنية. اليوم يستعيد السوريين قوة فعلهم السياسي السلمي بالتظاهر المدني المنتشر في محافظة السويداء، وتتجاوب معه من بقي المدن السورية، وبغض النظر عن المد الشعبي الكمي وإمكانية حدوثه في باقي المحافظات، لكن الفعل المنتظر اليوم هو استعادة قوة الفعل الوطني العام وكتلته الوطنية العابرة للتيارات والأحزاب السياسية والإثنيات والطوائف. الكتلة الوطنية اليوم بإمكانها أن تلتقط اللحظة الزمنية الهامة في مجريات الحدث السوري، إذ تمضي ساحات الكرامة في السويداء لشهرها الثاني بالتظاهر السلمي المدني، وإصرارها بادٍ على الوصول لأهدافها مهما طال الزمن، وتنتظر أن تلاقيها النخب الفكرية والسياسية والمنصات المدنية والكتل السياسية ورجال الأعمال السورية في موقعة وطنية تذكرنا بشيء مما حصل عام 1925 لكن من بوابة التغيير السلمي لا من بوابة الحرب؛ فاليوم يمكن لنقاط القوة الثلاث: التظاهر السلمي المدني، القرارات الدولية القاضية بالانتقال والتغيير السياسي ومقدمتها 2254 بمرجعية جنيف1، والنقطة الثالثة هي تشكيل الكتلة الوطنية السورية القادرة على رفد التظاهر السلمي وتفعيل الملف السوري محلياً وعربياً ودولياً. ومحمولة على عمق اجتماعي قائم يستكمل بدايات 2011، وهدفها استحقاق التغيير السياسي الراهن واللحظي، قبل التنازع على السلطة وحسم نتيجتها لصالح جهة دون غيرها.
ثمة مقولة مشهورة لأينشتاين مفادها أن “من غير الممكن حل مشكلة بذات الأدوات التي أنتجتها”، حيث تشير بوضوح أنه من العبث تكرار ذات التجربة وتوقع نتيجة مختلفة ما لم تتغيّر طرق التفسير وأدوات القياس، وهذا هو جوهر المعادلة السورية، إذ لا يمكن أن نتوقع حلًا لها يقوم على ذات الأدوات التي أنتجتها. هذه الأدوات هي الاستقطاب السياسي بين سلطة ومعارضات وأطياف كل منها تتوقع السلطة لنفسها وحسب. فيما الواقع يشير دون أدنى شك أو ريبة أن هوس امتلاك السلطة بذاتها أو تحقيق بديلها هو أساس المشكلة والكارثة السورية، فيما الكتلة الوطنية السورية المحمولة بأيدي رجال السياسة المجرّدين من هوس السلطة وحسب هو ما يمكنه أن يمثل الجدارة لاستحقاق التغيير المنشود واستكمال ما بناه الآباء المؤسسون، وإلا فإن تسلط العسكر سيقضي على من بقي من السوريين كما قضت على السياسية قبل عقود. فهل من مجيب؟