“خسائر لا تحصى”.. كيف تأقلم تجار سري كانيه مع نزوحهم؟

دلسوز يوسف – نورث برس

في متجر للمواد الغذائية وسط مدينة القامشلي، شمال شرقي سوريا، بدأ ماهر الزعيم، برفقة أشقائه فتح صفحة جديدة بالانخراط في سوق العمل بعدما خرج مرغماً تحت ضربات القصف التركي على مدينته سري كانيه (رأس العين) شمالي الحسكة، قبل أربع سنوات.

وعقب نزوحه، استقر وعائلته في القامشلي، بعدما كانت تمتلك سلسلة محلات تجارية وسط سوق سري كانيه، إلا أنهم تركوا كل شيء خلفهم في غضون لحظات.

ويقول “الزعيم” من متجره الذي يحمل ذات الاسم، لـنورث برس: “عند الهجوم التركي والمسلحون المرتزقة الموالون لها، تركنا كل أملاكنا خلفنا وتهجرنا من مدينتنا، حيث كنا نملك سوبر ماركت كهذه بالإضافة لمحلات ضمن السوق وعقارات”.

ويضيف: “تضررنا كثيراً كما جميع سكان سري كانيه، حيث شقاء أباءنا وأجدادنا ذهب بكل سهولة كون الهجوم كان مفاجئاً وخرجنا بلباسنا، يلزمنا عشرات السنين لنعوض خسائرنا”.

حنين وصعوبة العودة

وشنت القوات التركية برفقة فصائل المعارضة المسلحة الموالية له، في التاسع من تشرين الأول / أكتوبر 2019، هجوماً واسعاً على مدينتي سري كانيه وتل أبيض، شمالي سوريا، أدى لنزوح نحو 300 ألف شخص من ديارهم، وفق تقارير حقوقية.

وتسببت هذه العملية، في شتات سكان سري كانيه بين مدن الجزيرة السورية، بينما يقبع عشرات الآلاف منهم ضمن مخيمات في ريف الحسكة، وسط ظروف معيشية صعبة.

وكانت تعتبر مدينة سري كانيه من إحدى أكبر المدن الصناعية والتجارية في الجزيرة السورية، لكنها منذ أربع سنوات باتت ترزح تحت وطأة ممارسات وانتهاكات الفصائل المسلحة والقوات التركية، وسط حالة من الفلتان الأمني وانعدام الأمن، بحسب تقارير صحفية وحقوقية.

أسوة بغيره من تجار مدينته، يشدد “الزعيم” بأن المسلحين من فصائل المعارضة استولوا على محلاتهم دون صيغة قانونية ولا يسمحون لهم بالعودة.

وقال: “بعد انتهاء المعارك أردنا العودة لمدينتا، لكن هؤلاء المرتزقة الذين لا يملكون الضمير استولوا على محلاتنا لا يدعوننا نعود، بالنهاية نحن مدنيون ولم نحمل يوماً السلاح ولم نخض المعارك ضد أحد”.

وأضاف: “من عاد إلى المدينة تعرض للضرب وتعذب ذويهم بدفع الفدية لقاء إطلاق سراحهم لذلك لم نستطع العودة، أحياناً كنا نتواصل معهم كانوا يقولون لنا إذا عدتم سنزج بكم في السجن، فمحلاتكم بكل سهولة باتت تحت تصرفنا، لماذا ستعودون ؟

أمام هذه الانتهاكات، لم يغادر الشعور بالحنين للعودة إلى مسقط رأسه الذي أمضى فيها جل حياته.

وقال: “نأمل بالعودة يوماً ما، لكن من يعود مصيره السجن أو القتل، لكن من يخرج بالغصب من منزله لن ينسى بسهولة”.

وباتت منطقة سري كانيه شبه خالية من سكانها الأصليين، حيث تضاءلت نسبة الكرد الذين هم سكانها الأصليين لم يتبقَّ فيها سوى نحو 50 شخصاً معظمهم مسنون، بينما لم يبقَّ أي تواجد للإيزيديين وكان عددهم يبلغ نحو ثلاثة آلاف شخص، وفق البيت الإيزيدي.

ويخشى السكان العودة إلى ديارهم جراء الانتهاكات المستمرة من قبل القوات التركية وفصائل المعارضة، بحقهم.

وتتورط معظم الفصائل الموالية لتركيا، بعمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب، حيث سجل قسم الرصد والتوثيق خلال الستة أشهر الأولى من العام الجاري، اعتقال 496 شخصاً, 79 في سري كانيه و13 في تل أبيض, وفقاً لقسم الرصد والتوثيق في نورث برس.

“بدء من الصفر”

وفي المنطقة الصناعية بالقامشلي، بدأ التاجر بشير معو (45 عاماً) بلملمة جراح التهجير باستئجار محل لقطع التبديل، بعدما كان يملك مع أشقائه الأربعة محلات في سري كانيه.

ويشير “معو” إلى أن وضعه المادي كان جيداً قبل التهجير، إلا أن المسلحين “سرقوا كل شيء”.

ويقول من محله لـنورث برس: “بعد الهجوم التركي ودخول هؤلاء المرتزقة على سري كانيه، استولوا على جميع أملاكنا، سرقوا محتوياته، كما كان أخي طبيباً، سرقت محتويات عيادته أيضاً، لم يبق لنا شيء، حيث خرجنا نحن وأولادنا بثيابنا من مدينة سري كانيه”.

ويوضح التاجر الذي كان يملك محلات ومستودعات لقطع التبديل، أن خسائره “لا تقل عن 200 ألف دولار بعد التهجير”.

ويقول عن عمله: “سابقاً كنا نحن الإخوة الأربعة لكل منا محله الخاص، لكن حالياً بتنا نعمل نحن الأربعة ضمن محل واحد، لأنه لم نعد نملك المال”.

ويشير “معو” بنبرة يغلبها الحزن “بعد تهجيرنا بمدة قصيرة حصلت على صور لمحلاتي وهي منهوبة بالكامل، حاولنا العودة إلى المدينة لكنها كانت صعبة لأن مصيرنا سيكون مجهولاً ولا سيما أن هويتنا هي الكردية وتهمتنا لديهم جاهزة، بعض الكبار في العمر عادوا لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء”.

بات النازحون يقبلون بالواقع المعاش ويعتادون على حياة جديدة لحين الوصول بالبلاد التي أنهكتها الحرب منذ أكثر من عقد، إلى حل سياسي يتمكن سكان سري كانيه من خلاله من العودة بسلام أسوة بغيرهم من مهجري المدن السورية.

وأسوة بغيره من النازحين، يفتح مصطفى الزعيم، وهو أيضاً من سكان سري كانيه، متجراً للأحذية منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولا سيما أنه يعمل في هذا المجال منذ 23 عاماً.

وكان الزعيم قبل التهجير يملك محلاً ومستودعاً للأحذية في سري كانيه، لكنه خرج خالي الوفاض بعدما بالكاد تمكن برفقة أسرته من الفرار بلباسهم الذي يرتدونه تحت دوي قصف الطائرات والمدافع التركية.

ويشير التاجر الأربعيني، أنه بعد نزوحه بشهر تواصل مع أحد السكان في سري كانيه، وأخبروه بأن الفصائل قامت بكسر قفل محله وقاموا بسرقة بضاعته.

ويضيف أن أحد أقربائه عاد للمدينة بعدها بمدة، لكنه لم يستطع الوصول للمحلات وأخبروه بأنه يجب أن يحضر صاحبه.

ويقول لـنورث برس، من محله الواقع بالقرب من دوار سوني المعروف في القامشلي، “تضررت كثيراً، كان لدي نحو 4 محلات وأنا تاجر قديم في السوق، كما كان لدي ديون بين السكان، جميعها ذهبت، لكن هذا لا يضاهي شيء أمام الدماء التي أريقت من أبناء مدينتي”.

ويضيف: “لم أستطع العودة، فأمي عادت مرة واحدة وبالكاد سمحوا لها بدخول لمدة دقائق إلى منزلنا، فهم كانوا يتحججون علينا وكان يتهموننا بالانتماء إلى قوات سوريا الديمقراطية”.

وبينما يتوق “الزعيم” للعودة إلى مدينته، يشدد على أنه “حتى الآن يصعب عليَّ التعافي من أثار النزوح. لدينا آمل بالعودة إلى سري كانيه يوماً ما، لكن حالياً بدأنا من الصفر”.

تحرير: تيسير محمد