روبين عمر – نورث برس
يرى سياسيون أنه لا الولايات المتحدة ولا روسيا، ترغبان في ممارسة المزيد من الضغوط على تركيا، لمنع القصف المدفعي والهجمات بالطائرات الحربية والمسيرات، على شمال شرقي سوريا، وأن الاتفاقيتين اللتين تم توقيعهما عام 2019، بين كل من تركيا وأمريكا والأولى وروسيا، تم اختراقهما ونقضهما من قبل تركيا.
ورغم أنّ العملية التركية حينها، والتي أسفرت عن اجتياح سري كانيه/ رأس العين وتل أبيض، في شمالي سوريا، تعرضت للإدانة على نطاق واسع من قبل المجتمع الدولي، إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان واصل الهجمات، ولم يلتفت للدعوات الدولية، التي طالبته بوقفها وانتهاك حقوق الإنسان.
طاولة مفاوضات
بدأت العملية في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2019، حيث استهدفت الغارات الجوية التركية والمدافع مدن تل أبيض، القامشلي، عين عيسى وسري كانيه الحدودية، مما أدى إلى فرار آلاف المدنيين. وذلك بالتزامن مع بدأ انسحاب القوات الأميركية من مناطق العملية في شمال شرقي سوريا.
وفي 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، أعلن نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، أن الولايات المتحدة وتركيا قد توصلتا إلى اتفاق يقضي بوقف العملية العسكرية التركية لمدة 5 أيام من أجل انسحاب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من منطقة سري كانيه.
وفي 22 تشرين الأول/أكتوبر 2019، توصل الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان إلى اتفاق آخر لتمديد وقف إطلاق النار لمدة 150 ساعة إضافية من أجل إكمال “قسد” لانسحابها مسافة 30 كيلومتراً بعيداً عن المنطقة الحدودية، وكذلك من مدينتي تل رفعت ومنبج. كما تضمن الاتفاق تسيير دوريات مشتركة بين روسيا وقسد من جهة وروسيا وتركيا من جهة أخرى، على بعد 10 كيلومترات من الجانب السوري للحدود باستثناء مدينة القامشلي.

دورية أميركية – تركية أثناء تنفيذ اتفاق المنطقة الآمنة في سري كانيه – نورث برس
ولكن تركيا سرعان ما نقضت الاتفاقات، وواصل ضرب شمال شرقي سوريا بالمدفعية والطائرات المسيرة، بحجة “محاربة الإرهاب على حدودها مع سوريا”، وسط صمت من قبل الدول الضامنة للاتفاقات.
ويرى كالفن وايلدر، وهو محلل وباحث في الشؤون الاقتصادية والإنسانية، أن أبرز الانتهاكات التركية تأتي عبر ضربات المسيرات، التي تستهدف مقاتلي “قسد” والمدنيين الذين تعتبرهم تركيا تابعين أو داعمين لـ”قسد”. ويضيف أنه “نشهد أيضاً قصفاً مدفعياً وهجمات أخرى تنتهك اتفاقية وقف إطلاق النار، لكن ضربات المسيرات هي الأكثر اتساقاً وتكراراً من هذه الانتهاكات”.
ويشدد الباحث خلال حديث مع نورث برس، أن الولايات المتحدة تتردد في لعب دورها كوسيط في الأزمة. وهي تولي أهمية كبيرة في التعاون مع تركيا في قضايا أخرى (أوكرانيا على سبيل المثال). “لذلك يتردد صانعو السلام في ممارسة الضغط على أنقرة لتغيير سياستها في سوريا”.
ويقول: “لعب دور الوسيط يعني ممارسة الضغط على تركيا للجلوس على طاولة المفاوضات مع قسد، وهذا قد يتطلب ممارسة ضغوطات اقتصادية، والتهديد بفرض عقوبات أو حتى التهديد بتسليح قسد بأسلحة أكثر فتكا. وكل هذا سيعقد العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا، الأمر الذي لا ترغب به واشنطن”.
بالنسبة لروسيا، يضيف وايلدر: “تعتمد الأولوية في سوريا، وهي التعاون مع تركيا في بعض المستويات. فقد مارست موسكو (إلى جانب واشنطن) ضغوطاً على تركيا لمنعها من شنّ اجتياحات جديدة، ولكن لا روسيا والولايات المتحدة ترغبان في ممارسة المزيد من الضغوط على تركيا لمنع القصف المدفعي والهجمات بالطائرات المسيرة”.
وذكرت منظمة العفو الدولية أنها جمعت أدلة على جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات التي ارتكبتها القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها، والتي قيل إنها “قد أبدت استهانة مخزية بحياة المدنيين، وارتكبت انتهاكات خطيرة، وجرائم حرب، بما في ذلك عمليات القتل بإجراءات موجزة والهجمات غير المشروعة التي أدت إلى مقتل المدنيين وإصابتهم بجراح”.
نتائج كارثية
وقال جون روسوميندو، وهو محلل جيوسياسي وخبير في شؤون الشرق الأوسط، إن السياسة الدولية في شمال شرقي سوريا، هي إنشاء منطقة حكم مستقرة إلى حد كبير وإبقاء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تحت السيطرة، لكن تركيا أصرت على ضرب أمن واستقرار المنطقة ومواصلة هجماتها.
وأضاف لنورث برس: “حتى الآن، ظلت الولايات المتحدة وروسيا بعيدتين إلى حد كبير عن الصراع في القصف التركي الأخير. حيث تعتبر الحكومة الأميركية إلى حد كبير إبقاء داعش تحت السيطرة مصلحتها الوحيدة في سوريا وحاولت الابتعاد عن القتال”، منوهاً أنه “كان المكسب الرئيسي هو حكم مستقر على الثلث الشرقي من سوريا والحفاظ على تأثير منخفض لداعش”.
أوضاع صعبة يعيشها نازحو سري كانيه في مخيم واشو كاني
ومنذ الخميس الفائت، صعّدت القوات التركية من وتيرة هجماتها على منشآت في شمال شرقي سوريا، كانت قد اعتبرتها “هدفاً مشروعاً” لهجماتها، على خلفية تفجير أنقرة الذي قالت إن منفذيه جاؤوا من سوريا، وهو ما نفته “قسد”.
وتعرض أكثر من 200 موقع في مناطق ومدن شمال شرقي سوريا لقصفٍ تركيٍ عنيف بالطائرات الحربية والمسيرات، طال بنىً تحتية ومنشآت حيوية وآبار نفط وغاز، وفقاً لقسم الرصد والتوثيق في نورث برس.
ويرى سيروان قجو، وهو كاتب وصحفي، مقيم في واشنطن، أن “هناك اختلاف بشكل الاتفاقيات بين الروس والأميركان من جهة، ومن بين الروس والأتراك من جهة أخرى، هذه الاتفاقيات كانت مهمة، لأنها قامت بحماية المنطقة إلى حد ما، بالرغم من التهديدات التركية، بالنسبة للقوات الأميركية، هي تتفق مع تركيا على أن القوات الكردية لا تتواجد في تلك المنطقة المتفق عليها بين الدولتين، ولكن بشرط عدم اجتياح تركيا لأي مناطق أخرى في الشمال السوري، والاكتفاء بمنطقتي سري كانيه وتل أبيض فقط”.
وبالنسبة للقوات الروسية، تم الاتفاق على تسيير دوريات مشتركة، ولكن “قجو” يرى أن الاتفاقية مع الطرف الروسي، تسير الدوريات، “أنجح نوعاً ما”، بالإضافة إلى تواجدهم في المنطقة، والذي يجعل من هذه الاتفاقية أقوى، وهي فرصة للروس أيضاً لإثبات وجودهم في مناطق شمال شرقي سوريا.

مخيم واشو كاني في الحسكة
تجارة سياسية
ويقول الصحفي لنورث برس، إن “القوات الأميركية ضمنياً، سمحت للأتراك بالقيام بهذه الانتهاكات ولكن إلى حد مقبول، وهذا الشيء تجلى حتى في عفرين بعيداً عن الاتفاقيات بين الدولتين في سري كانيه وتل أبيض، ولكن بشكل غير علني، تفتح القوات الأميركية المجال للأتراك للقيام ببعض الانتهاكات في المنطقة، كالقصف بطائرات درون، ولكن دون لفت نظر المجتمع المدني لهذه التصرفات، أي عدم تضرر المدنيين من القصف”.
ويضيف: “لذلك ضمن هذا الإطار، وبسبب عدم وجود هجوم بري من قبل الأتراك، فالحجة الأميركية دائماً هي أن لتركيا حق بالدفاع عن حدودها ومحاربة الإرهاب، ولكن بحيث ألا تتصادم مع حربنا ضد داعش، والطرف الأقوى في المنطقة هم الأتراك بسبب وجودهم على الأرض، ومن ثم الروس، الذين يريدون إثبات وجودهم بأي شكل من الأشكال، لأنه بالنسبة لهم أي خطوة ضد أميركا تعتبر نجاحاً سياسياً لهم، خاصة بعد تأكدهم بأن القوات الأميركية لن تعود إلى تلك المنطقة، والشيء الوحيد الذي باستطاعة الروس فعله، هو وضع حد للأتراك أيضاً هناك”.
ويشير إلى أنه، “بنفس الوقت روسيا لا تريد أن تخسر الشراكة مع قسد، لأنها تعتبر خسارة كبيرة بالنسبة لهم، لذلك الروس أيضاً يقومون بالضغط على الأتراك بتخفيف استهداف مناطق شمال شرقي سوريا وتحويلها أحياناً إلى المناطق الغربية. فكل هذه التصرفات تدخل في إطار التجارة السياسية بين هذه الدول، ومناطق الكرد أيضاً هي قسم من هذه التجارة”.
وتتذكر الإدارة الأميركية اتفاقيات عام 2019، لذلك هذه الاتفاقيات “ليست مرضية للطرفين بشكل تام، ولكن تغلق الطريق أمام اجتياح تركي جديد للمنطقة، وهذا هو الشيء المهم بالنسبة لأميركا، وخاصة في الوقت الحالي الذي تمر به أميركا بمرحلة ما قبل الانتخابات، لا تريد فتح الملف السوري من جديد، لهذا الملف السوري ليس مكسب للقوات الأميركية”.
ولكن بالنسبة للروس، بمجرد توقيع اتفاقية مع الأتراك في ذاك الحين، “كانت رسالة للقوات الأميركية، بأن وجودنا على الأرض أقوى من وجودكم. أي طرف من الأطراف لا يريد مصلحة منطقة سري كانيه وتل أبيض”.
ويعتقد قجو أنه “هناك حدود للصبر الأميركي، لأنها تستطيع إلى حد معين إغلاق عيونها عن بعض التصرفات، ولكن من الواضح أن تركيا تريد التصعيد بشكل أكبر في المنطقة، حتى لو لم يكن الهجوم بري، سيكون عبر الطائرات والمسيرات، وبالمقابل، الإدارة الأميركية تتعرض لضغوطات وخاصة من “قسد” التي تتساءل، هل تتوقعون أن نبقى شريكين ونعمل سوياً في ظل هذا الضغط التركي علينا؟