الجريمة المدانة التي حصلت بالكلية الحربية في حمص للضباط الخريجين وأهاليهم لا تحتاج للكثير من الجهد لاكتشاف كذب وتضليل رواية النظام المبتورة والناقصة؛ فبالرغم من ضبابية التصريح الذي أصدره جيش الأسد عندما اتهم دول لم يحددها بدعم فصائل “إرهابية”، وأنها تقف وراء عملية استهداف حفل تخريج الضباط، فإن تلك الرواية وضعت الكثير من إشارات الاستفهام حول هذا البيان من حيث عدم تطابقها مع الواقع العسكري، ومع أبسط مفاهيم العلوم العسكرية.
برزت النوايا المبيّتة ومحاولات نظام الأسد الدفع بالاتهام نحو فصائل المعارضة، لكن مضمون الاتهام أدان بالوقت نفسه وقلل بشكل كبير من قدرات جيش الأسد وقدرات كل محطات السطع والمراقبة التي تتبع لقاعدة حميميم الروسية، وإلا كيف استطاعت طائرة مسيرة (بحسب رواية النظام) من قطع مسافات تتعدى 110 كم عن الساحل و130كم عن إدلب و190كم عن أرياف حلب، الوصول لهدفها في الكلية الحربية في منطقة الوعر غربي مدينة حمص، بل السؤال الأهم: كيف استطاعت تلك المسيرة ومهما كانت تملك من تقنيات أن تتجاوز الكتلة الرئيسية من منظومات الدفاع الجوي السورية والروسية، وأن تتجاوز محطات السطع والكشف الجوي لكل وسائط المراقبة، وكيف استطاعت تجاوز محطة “رامونا” التي تتواجد ثلاث محطات منها لدى جيش الأسد، والتي تستطيع تغطية كامل مساحة سوريا، وكشف أي طائرة غير سورية في إسرائيل والأردن ولبنان والعراق والحدود الجنوبية التركية بمجرد أن ترتفع لمسافة 15متر عن أرض المطار، أو تكشف أي طائرة بمجرد إقامة اتصال واحد بين الطيار والقاعدة الأرضية، وكيف استطاعت تلك المسيرة الخارقة التي يتم توجيهها والسيطرة عليها بواسطة الاتصالات اللاسلكية من إعماء وتجاوز كل قدرات المراقبة ووسائط التشويش ومحطات وسائط الحرب الالكترونية السورية والروسية؟
ضعف رواية الأسد دفع بأقرب المقربين للنظام وخاصة في منطقة الساحل التي تحملت الكتلة الأكبر من الخسارة من أبنائها وعائلاتهم في تفجير الكلية في حمص، دفعتهم لرفض رواية النظام والتشكيك بها، وعبروا عن عدم اقتناعهم، وقسم كبير منهم لم يتوانَ عن القول أن إيران من تقف وراء الحادث خاصة أن إيران تسيطر على أهم قاعدتين جويتين بمحيط الكلية الحربية بحمص وهما، مطار الضبعة الذي تسيطر عليه إيران وحزب الله وهو يمثل قاعدة لإطلاق المسيرات، وأيضاً هناك مطار “التي فور” الذي يضم أكبر ورشة لتركيب وصيانة وإقلاع المسيرات الإيرانية، ونظراً لقرب تلك القواعد الجوية من الكلية الحربية فمن الممكن أن تقترب وتهاجم دون أن يتم اكتشافها. لكنّ أحد ضباط القصر الجمهوري بدمشق نقل لأقاربه أن هناك تحذير ورد لبعض قطعات جيش الأسد، إلّا أن أوان التحذير كان قد فات فتمّ الطلب من وزير الدفاع مغادرة الاحتفال برفقة رئيس الأركان ومحافظ حمص بعد أن تم تجاوز الكثير من فقرات الاحتفال، حتى أن البعض أكّد غياب الضباط الروس عن الاحتفال كما جرت العادة في الاحتفالات السابقة، وتلك مؤشرات تدلل على توافر نية مبيتة، وأن جهاز استخبارات الأسد العسكري كان على دراية ومعرفة بما خططت له أيران بوصفها المتهم الأول في كل ما حصل بالكلية الحربية في حمص.
في تفاصيل الأسباب الموجبة لقيام إيران بتلك الجريمة هناك من تحدث عن عقاب إيراني ورسالة دموية ارادت إيران نقلها لبعض كبار ضباط جيش الأسد ممن أعربوا عن موافقتهم على المطلب العربي بإخراج إيران من سوريا، أو تخفيف وجودها للحد الأدنى وبالتالي كان على إيران توجيه تلك الرسالة المحدودة لضباط جيش الأسد، وهو ما يفسّر عدم مهاجمة الصيد الثمين بالاحتفال وهو وزير الدفاع ورئيس أركانه، بل الانتظار حتى مغادرتهم مع الوفود التي حضرات الاحتفال ثم الاستفراد بالضباط الخريجين وعائلاتهم لتنفيذ الهجوم.
لكن، ما الفائدة التي سيجنيها الأسد من موافقته لإيران على قتل أبناء جلدته بالساحل، والداعم الأكبر له على مدار الـ12 عام المنقضية، وفي التفاصيل قيل أن الأصوات الغاضبة والمرتفعة التي بدأت تظهر بالساحل والتي قد تدفع بالساحل للحاق بما يحصل في جبل العرب من انتفاضة شعبية هزت أركان الأسد، وخوفاً من انتقال العدوى للساحل الذي بدأ يرفع من طلباته بخصوص الحالة المعيشية وغياب الخدمات، فالتفجير شكل خدمة للأسد عبر رسالة مختصرة لكم الأفواه وصرف الأنظار بأن الدولة لديها مهام جسام بمحاربة الإرهاب وعلى تلك الأصوات المطالبة بتحسن الوضع الاقتصادي والمعيشي والخدمات أن تتوقف وتعيد اصطفافها وتحافظ على تمسكها بأرجل كرسي سلطة بشار الأسد المنشغل بالحرب على الإرهاب.
أيضاً عملية التفجير واستدعاء فرضية الحرب على الإرهاب ستكون مبرر قوي للأسد لرفض طلبات العرب التي تتضمن إطلاق سراح المعتقلين وتهيئة الظروف الآمنة لعودة اللاجئين والبدء بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 الخاص بعملية الحل السياسي في سوريا، وتفجير الكلية الحربية سيشكل رداً أيضاً على محكمة العدل الدولية التي تستعد في (10 و11) من الشهر الحالي لعقد بداية جلساتها الخاصة بإرهاب الأسد، ورسالة التفجير أرادت القول للمحكمة أن الأسد من يتعرض للإرهاب وأنه ليس سبباً له.
كثيرة هي الرسائل التي أرسلتها إيران ونظام الأسد من خلال التفجير الإرهابي الذي طاول حفل تخريج الضباط بالكلية الحربية، تلك الجريمة التي تأتي استمراراً لجرائم النظام، واستكمالاً لمخططات جهنمية كتفجير خلية الأزمة عام 2012، أو عمليات الاغتيال التي نفذها النظام ضد الكثير من أتباعه كاغتيال اللواء رستم غزالة واللواء جامع جامع والعميد عصام زهر الدين، بل أن هناك قناعة لدى الموالين وليس فقط المعارضة أن بشار الأسد وإيران على استعداد لقصف مدن الساحل مقابل البقاء بالسلطة، وأن بشار الأسد مستعد لقتل مقربين منه آخرين إذا ما كان مقتلهم ضمانة له لاستمراره بسدة السلطة السورية وشرعنة الوجود الإيراني.
المؤشرات والدلائل على تورط إيران بجريمة الكلية الحربية كثيرة ودامغة، لكن من يريد تدمير إدلب وخلق الذريعة لقتل ما تبقى من سوريين في أرياف إدلب وحلب لن يتوانَ عن قتل بضعة عشرات من أتباعه، وهذا ما حصل، وتحت ذريعة الانتقام لتفجير الكلية الحربية فتح جيش الأسد المئات من فوهات المدفعية والدبابات وراجمات الصواريخ، والتي مارست قتلاً وتدميراً للمدنيين النازحين والمهجرين في أرياف إدلب ومعظم قرى وبلدات الشمال السوري الغربي.
فتح الأسد كل بوابات سوريا للمرتزقة، وجعل أرواح السوريين مرتهنة لمشاريع إيران ومخططاتها، وما حصل في حمص وما يحصل اليوم بأرياف إدلب هو مثال عن إجرام إيراني وخيانة الأسد للسوريين، والمهم لدى طهران استمرار مشروع ولاية الفقيه لتبقى إيران تأكل العنب والسوريون يضرسون.