لا تتناول نشرات الأخبار مأساة الحرب التي تدير تركيا رحاها في شمال شرقي سوريا. دمرت تركيا خلال الأيام الماضية سبل عيش السكان هناك، قصفت مسيّراتها خلال ساعات محطات الكهرباء والمياه ومحطة تزويد المنطقة بالغاز المنزلي ومنشآت نفطية ومخازن غلال ومشافي ومخيّمات نازحين. هذه الهستيريا غير المبررة تقول شيئاً واحداً: تسعى تركيا لتدمير كل ملامح الحياة جنوب حدودها، وتحويل المنطقة إلى أرضٍ يباب خالية من سكانها الأصليين.
قبل أي تحقيق في ملابسات ومجريات هجوم أنقرة يوم الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، سارع رسميّو تركيا إلى الحديث عما تشتهيه وتسعى إليه حكومتهم: قصف البنى التحتية والمنشآت الحيوية. قرار تركيا كان في الأدراج على ما تقوله سرعة التنفيذ وكثافة الهجمات وتصريحات المسؤولين الذين حددوا بنك الأهداف الذي لا يقلّ أذىً عن صيغة حروبها البرية السابقة.
لا تحتسب البنية التحتية المدمّرة في عداد اقتصاد آلة الحرب التي تغذّي ما تقول أنقرة إنه “اقتصاد الأعداء”. المياه والكهرباء والمشافي والمخيّمات ليست روافد اقتصادية “لآلة حرب” مزعومة، هي في المطلق آخر ما تبقّى من مقوّمات حياة سكان هذه المناطق السورية. قبل هذا التدمير الأخير، دمّر الأتراك، بالاعتماد على الفصائل السورية المسلّحة الموالية لها، البنى التحتية والمحطات الحرارية في حلب وسواها، وسرقوا وهرّبوا المعامل وفككوا قضبان سكك الحديد. لم تكن تلك أيضاً ممتلكات النظام ولا داخلة في اقتصاد حربه، إنما كانت ملكاً لعموم السوريين، إذاً الحديث هنا عن تدمير بلد واحتلاله بما يفيض عن معاني كلمة “عدوان”.
لم تلتزم تركيا باتفاقات وقف التصعيد ووقف الاشتباك التي وقعّتها مع واشنطن وأيضاً مع موسكو بُعيد احتلالها منطقتي رأس العين وتل أبيض، وباشرت على الفور محاولات التقدّم باتجاه تل تمر وأبو راسين وعين عيسى ومنبج، واكتشفت، ربّما بالتدريج وبعد مراحل من “جسّ النبض”، أن إطلاق المسيّرات لا يلقى اعتراضاً من قبل مَن وقّعت معهم تلك الاتفاقات. على هذا النحو، بدأت باستهداف المركبات وبعض المنشآت وقتلت مدنيين وأفراداً من قوى الأمن؛ فإذا كانت روسيا قليلة المصلحة في شمال شرقي سوريا، فإن الولايات المتحدة المتمركزة في قواعد مُحكمة وتستند لاستراتيجية عمل لضمان إلحاق الهزيمة بداعش باتت تكتفي بالتعايش مع مفارقة مفادها: دعم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ومدّها بالأسلحة لمحاربة داعش، والسماح إلى ذلك باستهداف الجيش التركي لأولئك المقاتلين الذين يحاربون داعش. وكل ذلك يأتي كنتيجة طبيعية لإهمال واشنطن لمطالبات السكان وقسد بوجوب تحييد الطيران وحظره فوق الشمال الشرقي، وتخليها عن فكرة مراقبة الحدود، مع علمها أن المناطق التي تسيطر عليها تركيا والمناطق التي انسحبت منها قسد باتت منطقة نشطة لخلايا تنظيم داعش وموئلاً لقياداته الفارّة وكذلك لعناصر التنظيم التي تمكّنت من الهرب من سجن الصناعة بالحسكة في فبراير/شباط 2022، ولعل العملية التي نفّذتها الشهر الماضي قوات التحالف الدولي بالتعاون مع قسد واستهدفت إلقاء القبض على قيادي داعشي كان يختبئ في رأس العين تكشف شيئاً عن حقيقة المناطق التي تحتلّها تركيا وعن دور المسيّرات في تعطيل عملية محاربة وتعقّب خلايا داعش.
ومن بين قرابة 15 شخصاً فقدوا حياتهم، حتى اللحظة، بحرب المسيّرات التي لا تميّز بين مدنيّ وعسكريّ، كان هناك نحو تسعة مدنيين، ولئن كانت تركيا الرسمية دولة مفارقات صارخة، فإن الإدانة التي صدرت عن وزارة خارجيتها لمناسبة الحرب بين كتائب القسام (حماس) والجيش الإسرائيلي تكشف للمتابع عمق المهزلة وازدواج المعايير، فكلام أنقرة عن إيلائها “أهمية كبيرة لإرساء الهدوء مجدّداً في أقرب وقت بالمنطقة”، وإدانتها “بشدة سقوط ضحايا مدنيين”، لم تسمع مثله من أيّ دولة أخرى تدين فيه سقوط ضحايا مدنيين في شمال شرقي سوريا.
كان من المتوقّع أن تتحوّل مسألة إسقاط الجيش الأمريكي لمسيّرة تركية حلّقت قرب منطقة تواجد قواتها، إلى مادة للخلاف الدبلوماسي بين البلدين، أولاً لأنها سابقة أسقطت فيها دولة عضو في حلف الأطلسي طائرة لدولة حليفة لها، وثانياً لأن الأتراك يجيدون استدعاء الأحزان المفتعلة على الإعلام الأميركي والغربي. إلّا أن ما حصل خالف التوقّعات، فإعلان البنتاغون خبر إسقاط المسيّرة قابله إنكار وتجاهل تركي، ذلك أنه بتسيير المسيّرات يمكن إخفاء هويّتها بدرجة أو أخرى طالما أن آلات القتل هذه لا تحوي طيّارين، أو عندما لا ترفع أعلام الدول المشغّلة لها.
الحقيقة أنه يمكن عدّ المسيّرات من الجيل الأشد فتكّاً بين الأسلحة التي يجري استخدامها في سوريا. وبغض النظر عن تفاوت تطوّر إحداها عن الأخرى، فهي اليوم في متناول كل الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة في سوريا، بل أبعد من ذلك، فإن جهات مدرجة على لوائح الإرهاب باتت تصنّع نسخاً بدائية عنها قادرة على ارتكاب مجازر دون أن تعرف هويّة مشغّليها. إن ما يحصل في شمال شرقي سوريا من عدوانٍ مفتوح بالاعتماد على هذه الأسلحة، وما حصل في الكلية العسكرية بحمص، يفتح الباب أمام استحقاقٍ ضروريّ، وهو وجوب تحريم استخدام هذا السلاح في سوريا، وتجريم مستخدميه، وإلّا سنبقى في إزاء تدمير وقتل تحدثه المسيّرات دون أن يستنفر ردود أفعال دولية مطلوبة، وسيكون على السوريين تالياً الاعتياد على ذلك!