كان تفكير البريطانيين بالسماح بنشوء الدولة التركية عبر معاهدة لوزان عام1923، بخلاف تفكيرهم قبل ثلاث سنوات في معاهدة سيفر التي كانت أقرب إلى شهادة وفاة للدولة العثمانية حتى بشكلها الأناضولي المقلّص، ناتجاً عن خوفهم من تطور العلاقة بين مصطفى كمال والبلاشفة، وعن ميولهم لاستخدام الأتراك ضد الفرنسيين في بلاد الشام أو منعهم من التقارب معهم كما أوحت اتفاقية أنقرة الفرنسية- التركية عام 1921 التي أقلقت البريطانيين. كانت (لوزان) بمثابة احتواء لمصطفى كمال(لاحقاً: أتاتورك)، وهو قدم ما يرضي البريطانيين بعد خمسة أشهر من قيام الدولة التركية عبر الغاء (الخلافة الاسلامية) التي كانت تؤرّق لندن وتعتبرها قنبلة قابلة للانفجار خاف البريطانيون من أن تنفجر بوجههم عبر مسلمي الهند بالحرب العالمية الأولى لمّا وقفت لندن والأستانة في خندقين متجابهين .
من هنا، أوحت (لوزان)، التي كانت بمثابة شهادة ميلاد الدولة التركية الحديثة، بأن تلك الدولة لها طابع وظيفي في خريطة العلاقات الدولية. هذا الدور الوظيفي عند لندن ظهرت أهميته في الحرب العالمية الثانية لما كانت تركيا، بموقفها المحايد في الحرب، بمثابة حاجز بري بين هتلر الذي وصلت قواته للبلقان واليونان في ربيع 1941 وبين حلفاء برلين في سوريا ولبنان حيث كانت قوات حكومة فيشي الموالية للألمان وفي عراق حكومة رشيد عالي الكيلاني المعادي للبريطانيين وفي إيران الشاه رضا بهلوي الذي مدّ يد التحالف لهتلر ضد تشرشل. تثنّت وتضاعفت أهمية هذا الدور الوظيفي التركي لدى الغرب الأميركي- الأوروبي في الخمسينيات عند انضمام تركيا إلى حلف الأطلسي الذي كانت أنقرة جناحه الجنوبي الشرقي الحدودي ضد الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة وقد كان مشروع حلف بغداد عام 1955بمثابة امتداد عسكري- سياسي لحلف الأطلسي عبر القناة البرية التي اسمها (تركيا) التي تصل الحلف وتمتد به نحو منطقة الشرق الأوسط .
لكل ما سبق، وجدت تركيا نفسها دولة بلا وظيفة مع انتهاء الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1991، وقد طرحت بالتسعينيات ثلاثة مشاريع في عالم الحياة السياسية التركية، أولها مشروع الرئيس التركي تورغوت أوزال (توفي عام1993) عندما تحدث عن “عالم تركي يمتد من بحر إيجة إلى تركستان الصينية (بلاد الإيغور)” يكون امتداداً وظيفياً للغرب الأميركي- الأوروبي ويكون حاجزاً جغرافياً بين الروس والإيرانيين ومانعاً لهما ومنافساً على النفوذ هناك في منطقة آسيا الوسطى وشوكة في خاصرة الصين، فيما طرح الإسلاميون بزعامة نجم الدين أرباكان العودة بتركيا إلى حضن الجنوب الإسلامي والترابط معه وفيه، بينما قال أتاتوركيو حزب الشعب الجمهوري بأن قِبلة تركيا هي الغرب الأوروبي وضغطوا باتجاه الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي أعيد تأسيسه عام 1993 وفق (معاهدة ماستريخت).
فوجىء الأتاتوركيون بتصريحات علنية أطلقها مستشار ألمانيا هلموت كول بأن “هناك نادي مسيحي اسمه الاتحاد الأوروبي”، وتم عام1997 اسقاط حكم رئيس الوزراء أرباكان من قبل العسكر الأتاتوركي بانقلاب دعمته واشنطن عندما فكّر بالتوجه جنوباً نحو طهران وبغداد المحاصرة ونحو دمشق، ولم ينجح الطورانيون القوميون في بناء “العالم التركي”. عملياً كانت الدولة التركية مع بداية القرن الواحد والعشرون في حالة فراغ الدور الوظيفي.
يجب هنا الربط بين صعود الأردوغانية وبين حدث 11أيلول/سبتمبر2001عندما ضرب “تنظيم القاعدة” نيويورك وواشنطن، وكيف أن تقريراً، قدّم من لجنة مفكرين من ضمنهم المستشرق برنارد لويس لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش بعد ثلاثة أشهر من ذلك الحدث، قد وصف منطقة الشرق الأوسط بأنها تعاني “من ورم سرطاني خبيث” (بوب وودوارد:”حالة الإنكار”،دار نشر سيمون وشوستر،نيويورك ولندن،2006،ص85). كان بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس يرون التقرير”مقنعاً جداً”(ص85) وعلى الأرجح أن تفكيرهم بغزو العراق كبوابة لإعادة صياغة المنطقة، وفق تصريح في شباط/فبراير2003 لوزير الخارجية الأميركية كولن باول، كان من أجل أن تتولى واشنطن بيديها معالجة “الورم الخبيث”. بعد سنة من غزو الأميركان للعراق طرح “مشروع الشرق الأوسط الكبير- الجديد” بعام 2004 مع وصفتين هما (الديموقراطية السياسية) و(الليبرالية الاقتصادية)، ولكن مع تراجع النجاحات الأميركية بالعراق والوصول لما يقرب الفشل، بدأت تبرز هناك منذ عام 2005 أطروحات أميركية بأن “أردوغان هو النموذج الإسلامي الأميركي للعالم الإسلامي ” بالتزامن مع بدء مفاوضات جرت في لندن بين واشنطن والتنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين ، وهو ما أعقبه حدثان هما الضغط الأميركي على الرئيس المصري حسني مبارك لمشاركة جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب المصري ثم دخول الفرع العراقي للجماعة أي (الحزب الإسلامي) في وزارة نوري المالكي عام2006 وكسره مقاطعة سنة العراق العرب للعملية السياسية التي رعاها الأميركان هناك.
في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الجديد كان هناك تعويم أميركي لأردوغان وحزبه الذي فاز بالأغلبية في انتخابات برلمان 2002، ويبدو أن التفكير الأميركي كان استخدام “تلاميذ حسن البنا ضد أتباع ابن لادن” الذين بانوا كم هم أقوياء في العراق و اليمن والسعودية من دون الإشارة لحركة طالبان الأفغانية الحليفة لابن لادن، وفي خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما بالقاهرة عام 2009 كانت هناك مؤشرات على تخلّي واشنطن أو استعدادها للتخلي عن الأنظمة العربية القائمة الحليفة. تحقق هذا في عامي 2011و2012 وبارك البيت الأبيض وصول الأصوليين من “جماعة الإخوان المسلمين” للحكم في تونس والقاهرة ومشاركتهم بالسلطة في صنعاء وطرابلس الغرب، وباركت واشنطن رعاية أنقرة لـ”المجلس الوطني السوري” الذي يتزعمه الإسلاميون بعد شهر ونصف من دعوة أوباما للرئيس السوري للتنحي.
مع انقلاب الفريق عبد الفتاح السيسي على حكم الإسلاميين المصريين في 3 يوليو 2013 تخلت واشنطن عن زواجها القصير الأجل مع أردوغان والاسلاميين، وهو ماترافق مع فك تنظيم فتح الله غولن تحالفه مع حزب أردوغان ومع بدء توتر لم ينتهي حتى يومنا هذا بين أردوغان والأميركان. خلال فترة 2013-2016 سقط حكم الإسلاميين في مصر وتونس وبرز ضدهم اللواء خليفة حفتر في ليبيا وسقط تحالف الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي مع الإسلاميين بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء في عام2014، واتجهت واشنطن منذ اتفاق لافروف- كيري في أيار/مايو2013 للابتعاد عن أنقرة في سوريا نحو التنسيق مع روسيا ثم للتحالف مع “وحدات حماية الشعب” ضد (داعش) في الشمال والشمال الشرقي من سوريا .
في فترة 2013-2016 فقدت تركيا دورها الوظيفي عند واشنطن مثلما جرى في فترة 1991-2005 ، وهناك مؤشرات كثيرة على أن محاولة الانقلاب العسكرية التركية في 15 تموز 2016من قبل تنظيم غولن كانت مدعومة أميركياً، تلك المحاولة التي أعقب فشلها زيارة من أردوغان لروسيا بعد ثلاثة أسابيع وهو ما كرّس تقارباً بينه وبين بوتين أعطى تركيا مكاسب احتلالية لأراضي سورية برضا روسي في شريط جرابلس – الباب- إعزاز عام 2016 وفي عفرين عام 2018 وفي شريط تل أبيض- رأس العين (سري كانيه) عام2019، وهذا التقارب بين موسكو وأنقرة هو الذي سمح بالغطاء الخارجي لانتصار الآذربيجانيين على الأرمن في حرب 2020.
ولكن هذا الدور الوظيفي التركي الجديد من خلال الأوكسجين الآتي من الكرملين لم يعد قوياً بعد المأزق الروسي في الحرب الأوكرانية، في وقت على ما يبدو أن طريق “أنقرة إلى بروكسل” ما زال مسدوداً رغم محاولة أردوغان للمساومة على فتحه في أثناء مفاوضاته الأخيرة حول دخول السويد إلى حلف الأطلسي واشتراطه أن تكون الموافقة التركية مرفوقة بفتح الطريق أمام تركيا للدخول في (الاتحاد الأوروبي)، وعلى مايبدو أيضاً أن الصدع الأميركي- التركي الذي أصبح عمره عشر سنوات من الصعب ترميمه وردمه.
كتكثيف: الدور التركي في العلاقات الدولية له طابع وظيفي يحدده الآخرون وليس الأتراك، بداية من لندن ثم واشنطن وبعدها موسكو منذ عام 2016. لم تستطع تركيا أن تفرض نفسها على الآخرين كرقم لا يمكن الاستغناء عنه رغم موقعها الجغرافي المميز من خلال امتلاكها لمضيقي البوسفور والدردنيل ومن خلال كونها المعبر البري بين أوروبا والشرق الأوسط .
قوة تركيا في العلاقات الدولية يحددها الآخرون، كما واشنطن في فترة 2005-2013 بسبب امتدادات أردوغان الإسلامية،أو موسكو التي أعطت الأتراك سيطرة على أراضي سوريا لحسابات تخص بوتين هدفت إلى خلق شرخ في داخل بنية حلف الأطلسي. امتدادات الأتراك الذاتية نحو امتلاك نفوذ في بلدان معينة تعتمد على الإسلاميين كما في ليبيا وسوريا،أو على حاجة آذربيجان لحليف قومي تركي ضد الأرمن. نقطة ضعف تركيا الجغرا- سياسية الأكبر أنها لاتملك صديقاً بين دول الجوار بل هي متخاصمة مع معظم الجوار وذات طابع عدواني تجاههم وعندها شراهة نحو التوسع والسيطرة على أراضي الجوار، أما القلة القليلة فالعلاقة عادية معهم مثل جيورجيا أو فاترة مثل إيران، كما علاقتها مع المحيط العربي، في مصر والسعودية ودول الخليج، ليست جيدة. دولة كهذه،تعيش انقساماً داخلياً مزمناً بين العلمانيين والإسلاميين وصراعاً قومياً عمره من عمر الدولة التركية بين الكرد والترك، لايمكن أن تكون دولة ذات قوة مستدامة في العلاقات الدولية، مع غروب شمسها عند الغرب الأميركي- الأوروبي ، وهو مايوحي به (مشروع الممر الهندي- الشرق أوسطي- الأوروبي)، وعدم استطاعة الأسانسول الروسي أن يرفعها لطابق عالي، واجتماع هذا الأفول الوظيفي في العلاقات الدولية مع بنية داخلية مهتزة وقابلة للانفجار سيبين حدود القوة التركية هذا إذا لم ينهيها كما جرى في دول غربت شمسها مثل الاتحاد السوفياتي.