روبين عمر
اتفق سياسيون أن مشروع الاستيطان التركي أكثر شمولية من معاهدة “إصلاح الشرق” ومشروع محمد طلب هلال (الحزام العربي)، إذ إنه إعادة تدوير للمشروع الأخير لكن بشكل أشد واستمرارية أكبر.
يقول الكاتب والصحفي، حسين جمو، لنورث برس، إنه “رغم تشابه النتائج في الحالتين، إلا أن المشروع التركي له امتداد في الفكرة والأسلوب لمشروع أكثر قدماً وهو “إصلاح الشرق” الذي نهش المجتمع الكردي بأساليب عديدة، من طريقة ترويج الفنون والثقافة إلى الاقتلاع السكاني المباشر لأغراض أمنية، حتى مشاريع التحديث والتنمية في معظمها هي رافد لمشروع الإصلاحات الهادفة إلى هدم كل أسوار الحماية الذاتية للمجتمع الكردي”.
“أكثر شمولية”
وأضاف أن “ما يجري اليوم في عفرين وسري كانيه/رأس العين هو امتداد لهذا المشروع التركي، ويتم تنفيذ فصل جديد من هذا المشروع داخل سوريا، حيث أن المشروع حتى تاريخ الاحتلال التركي لمنطقة الباب وجرابلس وأعزاز عام 2016 كان محصوراً داخل حدود تركيا، وقد فتحت الحرب الأهلية في سوريا الأبواب لتركيا من أجل تطبيق مشروعها في التغيير الديمغرافي على الكرد في سوريا”.
وأشار الكاتب في حديثه لنورث برس، إلى أن “هناك تشابهاً في الأساليب بين مشروع الحزام العربي وإصلاح الشرق من حيث الغاية، إلا أن المشروع التركي أكثر شمولية ويشمل كل جوانب الحياة اليومية للكرد”.
لذلك يرى أن هناك فارق أساسي بين “إصلاح الشرق” و”الحزام العربي”، فالأول هي عملية مستمرة منذ عام 1925 إلى اليوم وسيبقى مفتوحاً على المستقبل حالما تكون هناك فرصة جديدة للاحتلال التركي. أما الآخر فهو مشروع تم تطبيقه لمرة واحدة ويحافظ على تأثيراته المدمرة إلى اليوم، لكن لم يتطور إلى مرحلة ثانية وثالثة، وذلك على عكس الخطط التركية التي لا تتقادم مع الزمن”، بحسب جمو.
ما هو دور محمد طلب هلال؟
محمد طلب هلال، تقلد منصب نائب رئيس مجلس الوزراء ووزيراً للزراعة في عام 1970. كما تولى منصب رئيس مجلس الوزراء وزيراً للصناعة عام 1971، كما كان سفيراً لسوريا في بولندا بين عامي 1972 و1979.
أعد محمد طلب هلال، دراسة بعنوان: “دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية”. خلال هذه الدراسة تحدث عن التحولات التي طرأت على القضية الكردية خلال قرن من الزمن، والتأثيرات الإقليمية على القضية، وأوضاع وأحوال الكرد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والمسؤولين البارزين لدى الكرد، وعلاقات الكرد مع الدول الأوروبية.
وتخلّص في نهاية دراسته إلى اقتراح مجموعة من المقترحات، تحدثت بعضها بشكلٍ واضح عن ضرورة تطبيق مشروع الحزام العربي، وهي: إسكان عناصر عربية وقومية في المناطق الكردية على الحدود، جعل الشريط الشمالي للجزيرة منطقة عسكرية كمنطقة الجبهة، إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تسكنهم الدولة في الشريط الشمالي، على أن تكون هذه المزارع مدربة ومسلحة عسكرياً كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماماً.

ما هو (الحزام العربي)؟
يُطلق اسم الحزام العربي على عملية التغيير الديمغرافي وعملية التعريب التي نفذتها الحكومة السورية في الجزيرة العليا (مدينة الحسكة) سنة 1974، عبر الاستيلاء على أراضٍ زراعية تعود ملكيتها لعشائر وآغوات ومزارعين من الكرد، على طول الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا في الحسكة، ذات الأغلبية السكانية الكردية، ومَنحها لمزارعين من العرب، تم جلبهم من مدينتي الرقة وحلب، بعد أن غُمِرَت أراضيهم بمياه بحيرة سد الفرات. الذين عُرِفوا لاحقاً باسم “المغمورين”.
يصل طول (الحزام العربي) إلى (275) كيلو متراً، وبعمق يصل في أقصى نقطة له إلى (15) كيلو متراً، ممتداً من مدينة ديرك إلى سري كانيه، وهي المناطق التي تُعرف محلياً بأراضي خط العشرة، وتعتبر من الأراضي الخصبة زراعياً، وكل القرى فيها للعشائر الكردية التي تربطهم صلات قُربى مع العشائر الكردية في الجهة الثانية ضمن الحدود التركية.
“إصلاح الشرق”
هي خطة وضعتها الدولة التركية الحديثة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، دون أن تُعرَض على البرلمان خشيةَ معارضتها، فقد أصدرها الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك بمرسوم صادر عن رئاسة الجمهورية، وأعدّ تفاصيلها مجلس الوزراء بشكل منظم وتألفت من 27 مادة.
وتتضمن الخطة موادااً “لإصلاح وتطوير الوضع” في شرق وجنوب شرق تركيا، بحسب التعاريف المتواجدة في الأدبيات الرسمية التركية حول هذا القانون.
اللاجئون اليونانيون في ميناء مودانيا ، تركيا عام 1922
وتضمنت الخطة مجموعة من الإجراءات الثقافية والسكانية والعسكرية في “جنوب شرق تركيا” وفق التسمية التركية، هدفها تذويب وصهر الكرد في بوتقة الثقافة التركية الحديثة، وعلى رأسها منعهم من الحديث بالكردية في الأماكن العامة.
وبحسب إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مطلع عام 2022، بقوله، “بدأنا العمل على تشييد المستوطنات بين منطقتي رأس العين وتل أبيض، حيث يمكننا إسكان مئات الآلاف من الأشخاص”، مضيفاً أن مناطق أخرى على طول الحدود التركية السورية “يمكن أن تؤوي مليون شخص”.
وتخطط أنقرة لتشييد مستوطنات في المناطق التي نزح عنها الكرد، حتى يتم إسكان السوريين العرب الآخرين الذين فروا من مناطق أخرى من البلاد إثر الحرب المندلعة منذ 2011، وسط تحذيرات من تشويه الخريطة الديمغرافية للمنطقة.
“توقف ولكنه لم ينتهِ“
يقول نواف خليل، مدير المركز الكردي للدراسات في ألمانيا، إن “ما يجري خطير جداً، فتركيا احتلت عفرين وهجرت مئات الآلاف في سري كانيه ولم يبق فيها سوى 50 شخص من كبار السن، هذا المشروع مستمر منذ 100 عام والآن يراد تطويره خارج الحدود الرسمية لتركيا، (توقف ولكنه لم ينتهِ)، ولهذا يتم استهداف الكرد في شمال كردستان وجنوب كردستان وغرب كردستان وشمال شرقي سوريا”.
ما تقوم به تركيا هو جزء من مشروع إصلاح الشرق الذي تم التصديق عليه بعد معاهدة لوزان التي وقعت في تموز 1925، إذ أن معاهدة لوزان أنهت أي وجود للكرد في تركيا من الناحية القانونية، والحكومات التركية المتعاقبة عملت على أن يتحول الوجود القانوني إلى إلغاء فيزيائي للكرد، إذ سحقت الانتفاضات والثورات الكردية التي جاءت بعد عامين من تأسيس الجمهورية التركية، يضيف “خليل”.
ويشير إلى أن ما تقوم به تركيا يدخل في إطار الفلسفة الأمنية والفلسفة الأمنية التي تركز على الإرث الإجرامي للهندسة السكانية التي قامت به تركيا، أي المجازر التي طالت الأرمن وطالت الكرد وبعد ذلك التبادل السكاني الذي جرى بين اليونان والأتراك وغير ذلك.
ويقول: “التأثيرات طبعاً ستكون مدمرة، عدا تحقيق الهدف التركي المستند على الفلسفة الأمنية التي تركز على الهندسة السكانية أي التغيير الديمغرافي المستدام والذي يراد منه أن يكون مستداماً، أي يؤسس لتدمير العلاقات الكردية العربية. بالإضافة أن ما تقوم به حكومة أردوغان الآن يساعد القوات الحكومية أيضاً على التغيير الديمغرافي، بأن يتم إسكان أهل الغوطة وغيرها من المناطق في عفرين وتل أبيض وسري كانيه، وهو أيضاً جزء من هدف الحكومة في تفخيخ العلاقات بين شعوب سوريا”.

“مشروع خطير جداً”
بدوره يقول عبدالله شكاكي، وهو مؤرخ، إن مشروع الحزام العربي هو “نسخة” من الاستيطان التركي، لأنه “تم أخده من تركيا، بحكم التنسيق العالي بين سوريا وتركيا سابقاً، فعلى الرغم من الاختلاف السياسي بين الدولتين، ولكن من ناحية التنسيق الاستخباراتي كانت العلاقات وطيدة بينهم، وحتى في السنوات الـ١٢ الأخيرة، بالرغم من انقطاع العلاقات بشكل تام بين الدولتين، ولكن العمل الاستخباراتي وبالأخص ضد الكرد ما زال مستمراً، وينفذون سوياً خططاً ضمن هذا الإطار”.
ويتجلى هذا الاتفاق بما حصل بمدينة عفرين، حيث كان هناك تركيز تام على عفرين أكثر من الجزيرة السورية والمناطق الأخرى، لأنه وحتى عام 1959 كان سكان منطقة عفرين بنسبة 100% من الكرد فقط، ولكن بعد الوحدة بين سوريا ومصر وفي عهد الانفصال وعلى عهد حزب البعث وإبان حكم حافظ الأسد، قامت الدولة السورية بتوطين بعض السكان العرب في منطقة عفرين، ورغم ذلك نسبة السكان العرب في منطقة عفرين لم تتجاوز الـ3% من عدد السكان، بحسب شكاكي.
ويضيف المؤرخ الكردي، كانت عفرين منطقة جغرافية تزعج تركيا، فكيف هناك منطقة حدودية معها عدد سكانها تقريباً ١٠٠% من الكرد، وبالنسبة لعفرين بالذات كانت الحركة الكردية داخلها نشطة وقوية جداً، لذلك قامت تركيا باستهدافها، رغم تنازلها لكل الأطراف كـ”روسيا وإيران”، فقط في سبيل احتلال عفرين، بحسب كلامه.
وبحسب شكاكي، “الآن نرى النقاشات والحوارات التي تتم لإعادة العلاقات بين سوريا وتركيا، ولكن الأخيرة ترفض الخروج من سوريا لحين إتمام مشروع الاستيطان”، بالإضافة أنه الوقت الحالي تجاوزت نسبة السكان العرب الذين وطنتهم تركيا هناك ٧٠% من عدد السكان.
ويضيف لنورث برس، هذا المشروع “خطير جداً، وأخطر من مشروع الحزام العربي، لأنه على حد علمي في منطقة الجزيرة بعد إنشاء هذا الحزام قامت الحكومة السورية ببناء ٤٠ قرية فقط، هذا العدد لا يؤثر على جغرافية المنطقة، وليس بالأمر الخطير جداً، لأن سوريا لم تكن تستطيع بناء مشاريع استيطانية كما تفعل تركيا الآن، ولكن هذا الدرس أخذته سوريا من تركيا وليس العكس”.
وبحسب قسم الرصد والتوثيق في نورث برس، فإن حصيلة المستوطنات التي بنيت منذ عام 2018 بريف حلب الشمالي وصلت 118 مستوطنة لحين إعداد التقرير.
صورة لجنود أتراك التقطوا صورة رفقة عدد من الكرد درسيم قبل إعدامهم
“جريمة حرب” – “جريمة تطهير عرقي”
وقال أستاذ القانون الدولي العام، أيمن سلامة، وهو عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، إن “الاستيطان التركي العسكري الغاصب انتهاك صارخ للمواثيق الدولية وتحديداً القانون الدولي الإنساني”، وانتهاك صريح لنص المادة الثامنة من النظام الأساسي من المحكمة الجنائية الدولية التي تنص على “جرائم الاستيطان” باعتبارها “جريمة حرب”.
وجرائم الاستيطان هي أحد الجرائم التي تلاحقها المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي تجاه المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، بحسب الخبير.
وأوضح سلامة في تصريح لنورث برس، أن “الاستيطان يعد انتهاكاً لحقوق المواطنين السوريين دونما أي تمييز للأشقاء في الشمال السوري، سواء كانوا عرب أو كرد أو تركمان أو أي قوميات أو عقليات أخرى، فهو تمييز عنصري، الناتج عن جدار العزل والفصل التركي يعدان جريمة ضد الإنسانية بموجب المادة السابعة من النظام الأساسي من المحكمة الجنائية الدولية”.
وأضاف: “إنشاء المستوطنات التركية في الشمال السوري في مناطق تمثل أهمية ثقافية وتاريخية واجتماعية أيضاً في الشمال السوري للسوريين يعد اجحافاً بحقوق السوريين وتقليل للتراث الثقافي والهوية السورية في الشمال السوري”.
ووفقاً لـ”سلامة”، فإن نقل السكان الأتراك أو نقل أي سكان غير سوريين إلى الأراضي السورية “المحتلة” في الشمال السوري “جريمة حرب”، بحسب تعبيره.
وشدد الخبير، أن الصفة الرسمية لرئيس الدولة أردوغان أو غير أردوغان “لا ترخص ولا تبيح له ارتكاب الجرائم الدولية ومنها جريمة الاستيطان ولا تمنع عنه المسؤولية والمسائلة الدولية، أي ملاحقة دولية ومن بين أشكال الملاحقة الدولية المتاحة هي المحكمة الجنائية الدولية”.
وفي ختام حديث سلامة مع نورث برس، قال: “يمكن الزعم بأن تغيير التركيبة الديمغرافية السكانية في المناطق السورية المحتلة في الشمال السوري بواسطة سلطات الاحتلال التركي يمكن أن ترقى لجريمة التطهير العرقي”، بحسب كلامه.