أربيل- نورث برس
يشهد العالم صراعاً مريراً في إنشاء الطرق العالمية التجارية من الشرق إلى الغرب مروراً بالشرق الأوسط لتقوية النفوذ الاقتصادي، الاقتصاد الذي لطالما كان العنصر الأساسي للنفوذ والهيمنة الدولية، واليوم يظهر طريق واعد منبعه الهند ومصبه أوروبا، ليحطم آمال طريق الحرير الصيني التاريخي، بشكل يتناسب مع مساعٍ غربية لتحجيم نفوذ بكين.
فبالتزامن، مع توسع مجموعة البريكس ذات القيادة الروسية والصينية، عقدت مجموعة العشرين قمتها في 9 أيلول/ سبتمبر. والمثير للاهتمام أن المجموعتين لا تحتويان دولاً خصمة فقط، بل أخرى شريكة في الجانبين، كالهند نموذجاً.
بالنسبة لمجموعة بريكس وهي تتوسع أمام الدول الناشئة الساعية إلى تعزيز نفوذها في العالم، تواكب الطموح الصيني والروسي بالدرجة الأولى، في تحدٍ يهدف إلى تقليص هيمنة الدولار في العالم.
وانضمت ست دول جديدة (إيران والسعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والأرجنتين وإثيوبيا) إلى مجموعة بريكس المؤلفة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وفق ما أعلن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامابوزا خلال قمة للمجموعة في شهر آب/أغسطس الفائت.
وفي المقابل، ظهرت مجموعة العشرين، بأسلوب هندي واضح وبزعامتها في القمة الفائتة وهي وضعت مفردة “بهارات” بدلاً من الهند، كمخطط أولي لكيفية تكامل العالم الجديد، علماً أن مجموعة العشرين تتألف من التجمعات الاقتصادية المهمة على مستوى العالم، حيث تضم في عضويتها كل من: الولايات المتحدة الأمريكية، والأرجنتين، والبرازيل، وأستراليا، وكندا، والمكسيك، وتركيا، وإندونيسيا، وكوريا الجنوبية، واليابان، والصين، وألمانيا، وبريطانيا، والهند، السعودية، وجنوب أفريقيا، وإيطاليا، وفرسنا، وروسيا، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي.
لماذا الحديث عن المجموعتين؟
كان لابد من إعطاء خلفية للتحالفات عبر المجموعات الدولية، قبل الخوض في الصراع الاقتصادي العالمي ولاسيما المتمثلة بين الصين والولايات المتحدة كأقوى اقتصادين في العالم، في وقتٍ برزت المنافسة الجيوسياسية بين القوتان على ساحة الشرق الأوسط، خاصةً بعد الحديث عن طريقٍ واعد، يربط الهند بأوروبا عبر دول الخليج فالأردن وإسرائيل ثم البحر المتوسط.
وفي قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، قالت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إنهما يؤيدان خطة لبناء ممر اقتصادي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.
ويهدف خط النقل، الذي يطلق عليه اسم الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، أو مختصراً بـ” IMEC”، إلى إنشاء خطوط شحن جديدة بين الهند والإمارات العربية المتحدة ونظام سكك حديدية للشحن يمر عبر الإمارات السعودية والأردن وإسرائيل، حيث يمكن شحن البضائع إلى أوروبا.
ووصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، المشروع بأنه “ليس أقل من تاريخي”، مضيفة أنه سيخفض وقت العبور بين الهند وأوروبا بنسبة 40 بالمائة. وقالت “سيكون هذا الرابط الأكثر مباشرة حتى الآن بين الهند والخليج العربي وأوروبا”.
لكن لا يمكن نسيان حقيقة أن منطقة الشرق الأوسط ذات تجربة في الإعلان عن مشاريع البنية التحتية الضخمة، وهي تشهد فشلاً عندما تصطدم بالواقع الاقتصادي والجيوسياسي، رغم أنه بات أقرب إلى التحقيق بعد نجاح اتفاقيات أبراهام (سلسلة تطبيع دول عربية مع إسرائيل).
رداً على تمدد التنين
المشروع الجديد يُطرح في مرحلة شهدت تحولات إعادة التشكيل السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث اكتسب لاعبون جدد مثل الصين ظهوراً لافتاً كأكبر عميل لنفط دول الخليج. وتحولت تجارة الطاقة المزدهرة إلى علاقة اقتصادية أكثر نضجا.
وكانت السعودية، صاحبة أكبر اقتصاد في المنطقة، في طليعة هذا التحول، وتوسطت الصين في صفقة تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، لتقف السعودية في موقف أبعد من الانحياز من الغرب إلى مكان يحاول البقاء في نقطة توازن سياسي يتبعه ولي العهد محمد بن سلمان، وبموجبها بدأت عواصم الخليج يرسمون مساراً مستقلاً عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والاقتصادية.
وتعرضت العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية للتوتر عندما تعهد بايدن بجعل الأمير منبوذاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان. واختلف الجانبان أيضًا بشأن سياسة الطاقة، حين رفضت الرياض دعوة واشنطن لها لضخ المزيد من النفط لكبح الأسعار المتزايدة.
ولكن في حفل إطلاق IMEC لمجموعة العشرين، بدا التقارب أكبر بين واشنطن و الرياض، على الأقل توحي بتعويض فشل زيارة بادين السابقة إلى جدة صيف العام الفائت.
ويقوم كبار المسؤولين في البيت الأبيض الآن برحلات مكوكية بين الرياض وواشنطن لإقناع السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لكن جاء ذلك متأخراً نوعاً ما، بعد أن وقعت السعودية صفقات بقيمة مليارات الدولارات خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض في ديسمبر/كانون الأول.
وعندما تشعر الولايات المتحدة بتمدد التنين الصيني على حساب تقلص علاقاتها، قد يكون الناتج هو تشجيع طريق الهند لتشكل ضربة لمفترق الحرير الصيني من آسيا إلى أوروبا عبر تركيا، وبالتالي ضربة لاقتصادها.
وقد وصف الكثير من المحللين في تقارير تناولت أنباء مشروع طريق IMEC بأن بديل تدعمه الولايات المتحدة لمبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI).
مبادرة الطريق والحزام
ووقعت 17 دولة في الشرق الأوسط و52 دولة في أفريقيا على مبادرة “الحزام والطريق”، وهو مشروع ضخم للبنية التحتية يسعى إلى ربط الصين ببقية العالم من خلال سلسلة من الشبكات البرية والبحرية.
ومنذ الكشف عنها لأول مرة في عام 2013، ساعدت مبادرة الحزام والطريق في تمويل طفرة في البنية التحتية الأفريقية، مما سمح للدول المتعطشة للائتمان ببناء مشاريع الطاقة الكهرومائية والمطارات والطرق والسكك الحديدية.
لكن المبادرة تعرضت أيضا لانتقادات بسبب اعتمادها الكبير على العمالة الصينية وإيقاعها في شرك الدول النامية بمستويات ديون مرتفعة للغاية، وهذا ما أتاح لبكين الاستيلاء على الأصول الاستراتيجية للدول الفقيرة.
وفي الشهر الماضي، انتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن مشروع البنية التحتية في بكين ووصفه بأنه فخ “مشنقة وديون”.
ومع احتدام الحرب في أوكرانيا، نأت العديد من الدول الأوروبية بنفسها عن مبادرة الحزام والطريق، ولم تتحقق التوقعات بأنهما قادرة على إحياء الآفاق الاقتصادية لدول المشرق مثل لبنان وسوريا والأردن .
واحتلت السعودية والإمارات المرتبة الأولى والثالثة من حيث حجم البناء لمشاريع مبادرة الحزام والطريق في النصف الأول من عام 2023، حيث حققتا 3.8 مليار دولار و1.2 مليار دولار على التوالي.
لذلك، حين يتم اعتبار الممر الهندي- الأوروبي على أنه رد على مبادرة الحزام والطريق الصيني، يجب أن يكون الأول أكثر من مجرد بديل اقتصادي للثاني، ومنافس في كافة النواحي لكي يتمكن من رؤية النور.
وتحظى نيودلهي بمستوى غير عادي من الاهتمام في واشنطن بسبب التوترات مع الصين، كذلك بالنسبة لدول الخليج فقد أطلقت الولايات المتحدة يدهم نسبياً لرسم سياساتهم بشكل أكثر استقلالية حتى لو شكل في بعض الاحيان تضارباً مع مصالحها كالتطبيع مع إيران على سبيل المثال.
غضب تركي وقلق مصري
في حين أن المشروع لم يبدأ بعد، فقد بدأ بالفعل في إثارة قلق وغضب بعض الدول التي ترى نفسها بمثابة جسور طبيعية بين الشرق والغرب.
ومن المعروف أن أسرع طريق بحري اليوم لعبور البضائع بين آسيا وأوروبا هو قناة السويس. ويمر حوالي 12% من التجارة العالمية، أو حوالي ثلث إجمالي حركة الحاويات العالمية، عبر الممر المائي الذي يبلغ طوله 150 كم.
إذا تحقق طريق IMEC وأصبح بديلاً للمشروع الصني، فقد تخسر مصر من التحول في الممرات التجارية، لأنها لا تطال الأراضي المصرية بل تتألف من مرور بحري (بحر العرب) صوب البر في دول الخليج وصولاً إلى اسرائيل عبر الأردن ثم البحر المتوسط، مما قد يستنزف حركة البضائع عبر قناة السويس، ويحرم الحكومة المصرية التي تعاني من ضائقة مالية من مصدر رئيسي للإيرادات الأجنبية.
وفي الوقت الذي تعاني فيه من ارتفاع معدلات التضخم ونقص العملة الأجنبية، قامت القاهرة برفع رسوم العبور عبر القناة. وارتفعت الإيرادات بنحو 35 بالمئة هذا العام مقارنة بالعام الماضي لتصل إلى 9.4 مليار دولار وهي نقطة مضيئة نادرة للاقتصاد المصري المحاصر.
هذه المعطيات تثير القلق المصري من مستقبل إنجاز المشروع الهندي الأوروبي.
والأكثر غضباً لعله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حين قال “لا يمكن أن يكون هناك ممر بدون تركيا”، في أعقاب مشاركته في قمة مجموعة العشرين بالهند.
ويعتبر أردوغان أن بلاده هي الخط الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب في مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وبالتالي يطمح لأن يغير مسار ذلك عبر دعم مشروع طريق تنمية العراق، الذي يهدف إلى ربط الخليج بتركيا وأوروبا عبر خط سكة حديد وطريق سريع عبر موانئ في الإمارات وقطر والعراق.
وفي شهر مايو/أيار، كشف أردوغان ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني عن خططهما الخاصة لإنشاء ممر بري وسكك حديدية يمتد من محافظة البصرة العراقية إلى الحدود التركية، والذي من شأنه أن ينقل البضائع إلى أوروبا.
ومن المرجح أن القلق التركي النابع من أن تفقد السيطرة الجيوسياسية بين الشرق الغرب، دفع أردوغان إلى لفت الأنظار إلى مشروع خط أنابيب غاز “إغدير-نخجوان” حيث وضع حجر الأساس مع نظيره الأذربيجاني يوم الاثنين الفائت، وروجا لمشروعهما كمساهم في تعزيز شراكة تركيا مع أذربيجان وفي إمدادات الطاقة إلى أوروبا.
وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أعلن في وقت سابق، أن روسيا وتركيا تعتزمان تشكيل مجموعة عمل مشتركة لمناقشة بناء مركز لتصدير الغاز في تركيا.
ونوقشت فكرة تدشين مركز للغاز في تركيا، في تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، بعد أسبوعين من تخريب خطي أنابيب “التيار الشمالي”(نورد ستريم)، وقال الرئيس بوتين حينها، إن الغاز الروسي يمكن نقله إلى منطقة البحر الأسود، وأشار إلى إمكانية إنشاء مركز للغاز في تركيا.
وفي حين أن تركيا تلقت المقترح الروسي بإيجابية، استقبلتها أوروبا دون حماس، حيث ذكرت المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي سيواصل مساعيه لتقليل اعتماده على الغاز الروسي.