لا يكاد يمر يوم وإلا نسمع بأعمال عنصرية تستهدف الأجانب، لاسيما العرب، وتحديداً السوريين في تركيا، وتتراوح هذه الأعمال بين توجيه إهانات لفظية، واعتداءات جسدية، وصولاً إلى جرائم قتل، كل ذلك وسط حملات كراهية وتحريض على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض وسائل الإعلام، ومواقف وتصريحات لشخصيات سياسية وحزبية قومية متطرفة، وهكذا باتت العنصرية أشبه بفيروس معدي، ينتشر في المجتمع التركي بقوة وسرعة، ويجعل حياة الأجانب، لاسيما اللاجئين السوريين، في خطر داهم، إذ إن هؤلاء باتوا يفتقرون إلى الأمان، لاسيما في وسائل النقل والمواصلات والأماكن العامة، وبسبب كل ذلك يخشى كثيرون منهم الخروج من منازلهم، أو التحدث بغير اللغة التركية، ولعل خير من وصف هذه الحالة مسن تركي يكاد يشكل لسان حال الأتراك، عندما قال عقب اعتداء على لاجئ سوري كان يتحدث باللغة العربية ( هنا تركيا بلد الأتراك، كل شيء هنا تركي، لايمكن الحديث بلغة غير اللغة التركية حتى لو كانت اللغة الكردية).
صعود العنصرية على هذا النحو الخطير في تركيا، طرح أسئلة وتساؤلات كثيرة، عن أسبابها، وهل هي متجذرة أم طارئة؟ هل هي أعمال فردية أم منظمة؟ وأين الحكومة والمعارضة منها؟ وكيف يمكن أن تؤثر على تركيا اقتصاداً ومجتمعاً وأمناً؟ في الواقع، المتابع للشأن التركي، لابد أن يجد أن مظاهر العنصرية موغلة في البلاد، وإذا كانت في عهد الدولة العثمانية اتخذت مظاهر العداء لغير المسلمين، مثل الأرمن واليونانيين والآشوريين، فضلاً عن طوائف دينية مثل اليهود والعلويين، فإنها في عهد الجمهورية أتخذت شكل العداء للكرد بوصفهم ينتمون إلى قومية مختلفة، ومعروفة تلك الشعارات التي كانت تقول (أنا سعيد لأني تركي) بهدف دفع الشعوب غير التركية إلى التخلي عن هويتها القومية، فيما أستحوذ الذهن التركي على صور نمطية عن العرب، تتراوح بين الخيانة للدولة العثمانية بوصفهم تحالفوا مع الإنكليز ضدها خلال الحرب العالمية الأولى، فكانوا سبباً في إنهيارها، وبين صور سلبية تقوم على أنهم لا يهتمون بالنظافة الشخصية، ويفتقرون إلى العصرنة، ومن هنا حملت النظرة التركية للعرب نظرية استعلائية فوقية، فيها الكثير من مشاعر التفوق والعنصرية.
ولعل كل ما سبق، شكلت الجذور التاريخية والعوامل الاجتماعية والسياسية والفكرية لموجة العنصرية التي تشهدها تركيا في يومنا هذا، تقف خلفها الحكومة والمعارضة معاً، وجوهر القضية بدأت عندما تحولت قضية اللاجئين السوريين في تركيا إلى مادة للإستثمار السياسي في كل الاتجاهات، ومن ثم موضوعاً للجدل السياسي في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية، وأخيراً عندما حملت المعارضة والحكومة معاً مسؤولية الأوضاع الاقتصادية السيئة في البلاد لهؤلاء اللاجئين، فحكومة العدالة والتنمية كثيراً ما تحدثت عن أرقام خيالية صرفت على هؤلاء اللاجئين من أجل الحصول على مزيد من المساعدات الدولية، فيما رأت المعارضة أن غلاء الأسعار والإجارات وقلة الوظائف، سببه هؤلاء اللاجئين، وبين هذا وذاك تصدت الصحافة التركية لنشر وتصدير صور سلبية نمطية عن اللاجئين السوريين، مفادها السرقة والتحرش والإخلال بالأمن وخرق القوانين والاستحواذ على الوظائف على حساب الأتراك، وصل إلى درجة الحديث أن هؤلاء اللاجئين يأتون إلى تركيا لإستعمارها لاحقاً، كل ذلك وسط حملات تحريض على الكراهية.
وبسبب كل ما سبق تفجرت موجة العنصرية الحالية في الشارع التركي، وهي موجة تجاوزت اللاجئين السوريين إلى السياح العرب والأجانب، وعمليا لم تتحرك الحكومة التركية للحد من مخاطر هذا الصعود للعنصرية إلا بعد أن أحست بخسائر اقتصادية كبيرة، وصلت إلى حد قول القيادي في حزب العدالة والتنمية، ياسين اقطاي، إلى خمسة مليارات دولار، فضلاً عن سحب مستثمرين عرب لأكثر من مليار دولار من البنوك التركية بسبب موجة العنصرية هذه، وسط مخاوف من خسارات كبيرة، لاسيما خسارة السياح العرب الذين توجهوا إلى تركيا بقوة بعد المصالحة التركية مع كل من مصر ودول الخليج العربي وإسرائيل، ومع أن الاجراءات التي أتخذتها حكومة العدالة والتنمية بسيطة مقارنة بحجم الأعمال العنصرية التي ارتكبت إلا أنها بدأت تثير الانقسامات والخلافات في الطبقة السياسية التركية، وليس أقلها إعلان زعيمة حزب الجيد، ميرال أكشينار، رفضها لهذه الاجراءات، واعتبارها غير مبررة، ومثل هذه الانقسامات مرشحة للمزيد مع إقتراب موعد الانتخابات المحلية المقررة في نهاية أذار / مارس المقبل، حيث تقدمت قضية اللاجئين على كل القضايا الأخرى بوصفها تشكل خطرا مستقبليلا على تركيا، في وقت يسأل سائل، كيف تحول الأتراك الذين هاجرو إلى أوروبا منذ نصف قرن إلى وزراء ونواب ورؤساء بلديات في بلدان اللجوء فيما تحول اللاجئون السوريون في تركيا إلى مشاريع قتل وترحيل قسري تحت عنوان عودة طوعية ؟! خطورة العنصرية في تركيا أنها لا تعبر عن حزب يميني متطرف كما هو الحال في العديد من الدول الأوروبية، بقدر ما تعبر عن أيديولوجية الدولة التي قامت على التمجيد للقومية التركية من جهة، ومن جهة ثانية على ممارسات سياسية شاركت فيها الحكومة والمعارضة معاً، من أجل شعبوية في الانتخابات، هدفها أولا وأخيراً السلطة.