السويداء..  الإدارة الذاتية وخلطة اللامركزية الإدارية

تدخل انتفاضة السويداء شهرها الثاني بذات الإصرار الذي بدأته على الاستمرار بسلميتها ومدنيتها وعدم الانجرار خلف فتن النظام المفتعلة، حتى تبلغ أهدافها المعلنة بالوصول للتغيير السياسي على مستوى سلطة المركز والدخول في مرحلة انتقالية كما نصت عليه قرار مجلس الأمن 2254 بمرجعية جنيف1.

تعيد تظاهرات السويداء السلمية اليوم استحقاق المسألة السورية محلياً، والمتمثل بوجوب وضرورة الوصول لدولة الحق والقانون، دولة المواطنة بلا وصفات سياسية معلّبة أو جاهزة على مقاس جهة أو حزب أو فئة. وتعيد أيضاً ملف المسألة السورية للمحافل الدولية، وتبث رسالتها من خلاله: إن تحقيق الاستقرار والسلام في سوريا وخروج الاحتلالات العسكرية منها سينعكس على دول الجوار، وسينزع فتيل أية حرب إقليمية في المنطقة انطلاقاً منها.

في هذا السياق المتصاعد للثورة السورية ونقطة ارتكازها اليوم في السويداء، تعود بعض شبهات وأوهام السياسة للعمل على ساحة المحافظة، وفي مقدمتها الدعوة لعقد مؤتمر تأسيسي لقواها السياسية والمدنية والترويج الإعلامي لـ”إدارة ذاتية” يحكمها أبناء المنطقة كما يقال، والذي أعلن عن تأسيس “مجلس سياسي أعلى للمحافظة”، مع تزيين ذلك بطروحات مختلطة حول اللامركزية الإدارية وطرق الحكم الديموقراطية. هذه الاختلاطات تمثل خروجاً عن خط وأهداف التظاهر في السويداء، والقوى المتكلم عنها غير معروفة على ساحتها، بل طارئة وغير مرحب فيها في الشارع، ومع هذا ينجر بعض الأفراد خلفها عن حسن نية أو لغايات أخرى.

في حسن النية والخطأ السياسي العام يظهر الخلط بين الحلم والواقع، وتبرز نقطة التداخل بين زمنين:  التطلّع للمستقبل، ويدخل في ذلك مسائل الدستور وطبيعة الحكم واللامركزية الإدارية والإدارة المحلية مع وضع أسسها الفكرية والسياسية. فيما الزمن الحاضر الذي يدور حول استحقاقات التغيير العام كأساس أولي للدخول في تلك المرحلة اللاحقة، وهذا ما تطرحه بوضوح لا لبس فيه مظاهرات السويداء. وهو ما قد أشار له القرار 2254 بوضوح حين وضع الانتقال السياسي أولًا، والذي تقوده حكومة وحدة وطنية لمرحلة انتقالية، يليها انتخاب هيئة تأسيسية تعمل على صياغة دستور للبلاد وطبيعة نظام حكمها ومنها اللامركزية الإدارية.

في الغبن السياسي وتسويق الوهم وشبهة المشاريع الانفصالية، يبرز الترويج لمشاريع الإدارة الذاتية بالسويداء، وهذه تتدرج بين مستوى أولي يقول بضرورة تغيير الجهاز الإداري بالمحافظة عبر انتخابات حرة تفرضها انتفاضة الشارع، وتنسى هذه الطروحات أنها بذلك تسوق لإدارة محلية تولد ميتة كون لا وجود لموارد مادية تمكن السويداء من ذلك، فالإدارة ليست إدارة البشر وحسب بل إدارة الموارد أيضاً! وفي مستوى أعلى تبرز ظاهرة تشكيل مجلس أعلى من القوى الوطنية في السويداء غرضه تشكيل إدارة وحكم ذاتي في السويداء، والقوى الوطنية المعروفة بالمحافظة ليست على علم بهذا وترفضها من جذرها. وأهم ما يميز هذا الحدث قولها الصريح للانسلاخ عن سوريا وإقامة “حكم ذاتي” في المحافظة مستغلة حراكها الشعبي الواسع، مزيفة حقيقة انتفاضة السويداء ومطالبها الواضحة. هي ليست وهماً وحسب بل تتجاوزه لافتعال الفتن المحلية وأخذها ذريعة من قبل السلطة الحاكمة لاتهام انتفاضتها بالانفصالية، وهي المصابة بالشلل في التعامل مع السويداء لليوم، إذ لا يمكنها وصف المنطقة بالإرهاب كما جرى في باقي المدن السورية. لتصبح هكذا تصريحات مفتاح نجاة للسلطة باتهام السويداء بالانفصالية وتبرير أية ردة فعل تجاهها اقتصادياً أو أمنياً وعسكرياً، تقدم له إعلامياً عبر محطاتها ذاتها.

في الواقع السياسي، هناك فارق حاد بين مصطلحي “الحكم والإدارة الذاتية” و”اللامركزية الإدارية”، فحيث يلتقيان في ضرورة إحداث قوانين إدارية سياسية تفترض انتخاب المحافظ محلياً لا تعيينه من السلطة المركزية، واكتفاء المنطقة الإدارية بجهاز شرطة لإنفاذ القانون، وكف يد الأجهزة الأمنية مركزية الطابع والتسلّط عن التدخل في الحياة السياسية، والعمل على إدارة شؤون الوحدة الإدارية خدمياً، إلا أنهما يختلفان بالتوجه والنتيجة!

في المبدأ، كلاهما يختلف بالمضمون والجوهر عما تدعيه سلطة النظام بقانون الإدارة المحلية المحدّث عام 2012 والمعروف بالقانون 107 للإدارة المحلية اللامركزية، الذي أُفرد فقط للجانب الخدمي مستبقياً كل نزعات الهيمنة المركزية المتمثلة بتعيين المحافظ (المادة 39) كما وقائد الشرطة، وإعفاء الأجهزة الأمنية من اللامركزية (المادة 46)، أضف لإحداث المجلس الأعلى للإدارة برئاسة رئيس مجلس الوزراء (المادة 3). فانتخاب مجلس جديد يشمل المستثنون من القانون 107 سيعني قطع الصلة مع الحل السوري الواجب بتغير المركز وقراراته وقوانينه أولًا.

من جهة أخرى ثمة إصرار على إحداث ذلك الاختلاط بين اللامركزية والإدارة الذاتية، والاختلاف إن كان بادياً بالعمق في موضوع إدارة شؤون الدولة مالياً وعلى مستوى الخارجية والقانون القضائي، ونموذج الدولة وهويتها خاصة في موضوع السياسة الخارجية المعبّرة عن وجه الدولة، مع إحداث بنية متكاملة في طرق إدارة الموارد الاقتصادية للدولة. وهذا ما يعمل له السوريون في استحقاق استعادة الدولة والمشروط بالتغيير السياسي على مستوى البلاد. هذا بينما تنفي الإدارة الذاتية كل هذا من الجذر بحيث يصبح لكل حالة إدارية قضائها وماليتها الذاتية وهذه على خلاف الأولى في الجوهر والمضمون، وهذه المعضلة التي يروج لها طامحون للاستيلاء على سلطة في المحافظة ويجرونها لموقعة ابتزاز سياسي ووهم مشاريع مرتبطة بالخارج.

إن الترويج لمشروع إدارة ذاتية في السويداء وتزيينه بأفكار اللامركزية الإدارية إنما يهدف لخلط الأزمان وحرق المراحل، ومن ثم يروج لإغلاق السويداء وعزلها عن محيطها الحيوي السوري ويفقدها نقطة قوتها العامة والوطنية في الضغط على سلطة النظام بوجوب إحداث التغيير السياسي العام لمصلحة الكل السوري. أضف لأنه يجعل المحافظة محط بازار سياسي للمشاريع الانعزالية وتمرير أجندات التقسيم الفئوي والطائفي. فمحافظة السويداء التي لا تمتلك المقومات الاقتصادية والمادية لهكذا فرضية ستتحول أيضاً لمحطة بازار سياسي مقابل تقديم الخدمات لها من مشتقات بترولية وكهرباء وبقية المواد الغذائية وعلى رأسها القمح.

السوريون معارضة وموالاة، والسوريين المقصود بهم كشعب لا كسلطة ونظام حاكم أو بديل يتأهب لذات الدور في السويداء أو عموم سوريا، يتفقون على ضرورة إنهاء الحكم المركزي في سوريا، ليس لكونه حكماً ديكتاتورياً فقط، ولا لمجمل الكوارث التي أتى بها بطريقة حكمه خلال السنوات العشر الماضية وحسب، بل لتوق عام لدى السوريين لنظام حكم تسود فيه العدالة والديموقراطية وحكم الدستور والقوانين. هذا إضافة لاستحقاق التغيير المطلوب على مستوى الدولة وطريقة إدارتها السياسية، والتي تبدو معها اللامركزية الإدارية بوابة الاستحقاق السياسي إدارياً ضمن سلسلة التغيرات الممكنة مستقبلًا. لكنهم اليوم يستعيدون زمام المبادرة، بعد طول إنهاك وسيل من الكوارث التي ألمت بهم، ونقطة قوتهم الكبرى هي انتفاضة السويداء السلمية المدنية وعليهم تجاوز تحدياتها الجسام بغية الوصول لذلك. فيما دعاة الإدارة الذاتية سيجدون أنفسهم في موقع الإدانة المستمرة والنقد السياسي العام، علهم يصحون من أوهامهم وأحلامهم إن كانوا بريئي النية، أو ينكشفون على حقيقة أمرهم إن كانوا يعملون مع الغرف المظلمة التي لا تريد لأبناء الجبل وعموم سوريا الخير أبداً.