ما هذا الدور الذي تقوم به دولة قطر؟

تبعد  قناة “الجزيرة” في العاصمة القطرية الدوحة كيلومترات قليلة عن قاعدة (العِديد)، حيث مقر القيادة العسكرية المركزية (الوسطى) الأميركية والتي ميدان عملها يشمل كامل منطقة الشرق الأوسط  من أفغانستان شرقاً  حتى مصر غرباً  ومن تركيا شمالاً  حتى اليمن جنوباً وكما يشمل منطقة آسيا الوسطى وأجزاء من آسية الجنوبية. من (العديد) كانت تقاد عملية غزو الأميركان العسكرية لأفغانستان بعد أحداث 11سبتمبر2001، ولكن في الوقت نفسه كان مراسل الجزيرة ورئيس مكتبها في كابول، تيسير علوني، يجري مقابلة مع أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وهو ماتكرر بعد عامين من (العديد)حيث كان يدار الغزو العسكري الأميركي للعراق، وكان علوني هناك أيضاً.

وتيسير علوني  سوري من مواليد 1955في مدينة ديرالزور وقد كان عضواً في جماعة الإخوان المسلمين وبعد الهزيمة العسكرية للإسلاميين أمام السلطة السورية ذهب إلى إسبانيا عام 1983حيث التقى هناك بسوري آخر كان إسلامياً من حلب، وملاحقاً  مثله واسمه مصطفى ست مريم نصار(أبو مصعب السوري) وهو من مواليد 1958. في عام 1999 أصبح علوني مدير مكتب (الجزيرة) بالعاصمة الأفغانية كابول، وقد تيسرت أموره بسبب وجود أبو مصعب السوري في أفغانستان حيث كان منظًراً  وقيادياً في “تنظيم قاعدة الجهاد” الذي أعلن قيامه ابن لادن وأيمن الظواهري في شباط/فبراير1998وبدأ عملياته بعد ستة أشهر بضرب سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا، وهناك كثير من المؤشرات على أن أبو مصعب السوري كان الموجه وصلة الوصل بين ابن لادن- الظواهري و”خلية هامبورغ” التي شكلت الكادر الرئيسي لضربة 11سبتمبر في نيويورك وواشنطن.

شكلياً، يوحي هذا المثلث: (العديد- الجزيرة- علوني) بالتناقض بين ثالوثه: أي بين مقر القيادة العسكرية الأميركية الرئيسية بالمنطقة، وقناة فضائية كان خطابها الإعلامي بغزوتي أفغانستان والعراق معادياً للأميركان، وشخصٍ ذي توجّه إسلامي يشتغل بتلك القناة له ارتباطات أو علاقات مع قيادة التنظيم العالمي الذي وجه تلك الضربة الدراماتيكية لنيويورك وواشنطن. ولكن، عناصر هذا الثالوث تعايشت مع بعضها لربع قرن مضى من الزمن بين مدّ وجزر من دون أن  تفرط مسبحة هذا الثالوث، فهذا التناقض الثالوثي بدأت عناصره الثلاث بالتوحد والتلاقي في عام 2011 عندما كان الشيخ الإسلامي  يوسف القرضاوي ومن شاشة قناة الجزيرة ومن داخل العاصمة القطرية يبارك حملة حلف الأطلسي- الناتو العسكرية ضد نظام معمر القذافي في ليبيا، في زمن بدأت فيه الولايات المتحدة  في عامي2011و2012 التخلي عن أنظمة كانت حليفة لها لزمن طويل، مثل نظامي الرئيسين التونسي بن علي والمصري مبارك، وكانت تتجه نحو تأييد طبعة أردوغانية من الإسلاميين الأصوليين الذين صعدوا للسلطة في تونس والقاهرة.

 ولكن، عندما ابتعدت واشنطن منذ صيف 2013عن تحالفها مع الأردوغانيين العرب، وسكتت عن سقوط حكم الإسلاميين في مصر وتونس، فإن علاقات الولايات المتحدة مع قطر لم تتراجع أو تهتز، وهو ما حصل عكسه بين الأميركان وأردوغان في أنقرة الذي بدأت توتراته مع واشنطن في صيف 2013، بل رأينا أنه عندما حوصرت قطر وأغلقت الحدود البرية والمجال الجوي معها من رباعي (السعودية- الإمارات- البحرين- مصر) في 5حزيران/يونيو2017 فإن واشنطن لم تقف مع الرباعي المذكور ولم تهتز علاقاتها مع الدوحة بل ظلت متينة، رغم أن العلاقة العضوية بين التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وبين الدوحة استمرت قوية في وقت ما بعد تخلي واشنطن عن زواجها المؤقت مع هذا التنظيم، وكان الكثير يظنون بأن الأيام الثمانية الفاصلة بين  تنحي أمير قطر حمد بن خليفة ووزير خارجيته حمد بن جاسم وبين سقوط حكم الاسلاميين في القاهرة بيوم 3 يوليو 2013 تعني أن قطر ستمشي مع رياح أميركية جديدة أتت بالفريق عبدالفتاح السيسي للحكم ووضعت الرئيس الإسلامي المنتخب محمد مرسي  في السجن، ولكن هذا لم يحصل، وأيضاً لم تتخلَّ واشنطن عن قطر عندما واجهها ذلك الرباعي وحاصرها بعد أربع سنوات.

هذا يطرح سؤالاً كبيراً، هو: ما هذا الدور الذي تقوم به دولة قطر؟

واضح من بدء الدور القطري وصعوده في الإقليم منذ انقلاب الشيخ حمد بن خليفة عام 1995على والده الذي كان يستظل ويتبع السعودية بأن الرافعة للدور القطري هي رافعة أميركية. هنا، ليس كافياً وجود قاعدة (العديد) لتفسير الدور القطري وللإحاطة بجوانبه وكنهه، فكثير من الدول بالمنطقة تتمنى أن تكون القيادة العسكرية الوسطى الأميركية على أراضيها، وبعضها بموقع جغرافي أهم  وثروة نفطية كبيرة  ولها حجم سكاني كبير  ولها تاريخ وإرث بالمنطقة والعالم، مثل السعودية . يمكن أن يقدم تحالف الأسرة الحاكمة في قطر مع التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، وهو يضم خمس وثمانون حزباً وحركة وجمعية بالعالم، تفسيراً جزئياً ولكن ليس كافياً لواشنطن وهي التي علاقتها بهذا التنظيم كانت ودية بفترتي 1954-1991و2011-2013، وحصل التباعد بغير هاتين الفترتين وإن لم تقطع واشنطن أو تعادي هذا التنظيم رغم محاولات  في الكونغرس لتشريعه كـ “تنظيم إرهابي” أفشلها البيت الأبيض.

في هذا الصدد، يمكن المغامرة الفكرية في التفسير بأن الدور القطري في ديبلوماسية إطفاء الحرائق يقدم مسوّغات كبيرة عند  واشنطن لتعويم قطر في الإقليم، ويجب تعداد  الدور القطري بهذا المجال في النزاعات، من الوساطة بين الحوثيين والرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح في الحروب المتعددة بينهما في فترة 2004-2009، إلى التوسط بين الحركات المسلحة المتمردة في إقليم دارفور وسلطة الرئيس عمر البشير في الخرطوم وهو ما أعقبه توقيع اتفاق الدوحة عام2010، إلى المفاوضات طويلة الأمد التي استغرقت عقداً من الزمن حتى توقيع اتفاقية “حركة طالبان” مع واشنطن في 29شباط/فبراير2020 وكانت قطر هي الوسيط ومكان المفاوضات ومكان التوقيع على الاتفاق الذي كان بمثابة تسليم للسلطة إلى (طالبان)وهو ما حصل عملياً في شهر آب/أغسطس2021، وفي عام 2022 تم التوقيع في الدوحة على اتفاق مصالحة بين السلطة التشادية وحركات مسلحة متمردة، ثم وصولاً إلى  ما حصل مؤخراً بين طهران وواشنطن من اتفاق كانت قطر وسيطاً فيه لتبادل سجناء بين الطرفين مع إفراج عن أموال إيرانية مجمّدة في كوريا الجنوبية ستصرفها طهران بعد إيداعها في بنك قطري، وهو ما شكّل تلييناً لتوتر أميركي- إيراني عمره عاماً  كاملاً منذ انهيار مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني في آب/أغسطس2022.

هنا، يجب تسجيل أن الدور القطري، كما في عامي2011و2012 عندما كانت واشنطن والإسلاميون في شهر عسل، كان يتضخم إلى درجة يطمس الدورين المصري والسعودي، وخاصة أن تركيا أردوغان كانت آنذاك هي “النموذج الإسلامي الأميركي”، أي أردوغان الذي وجد نفسه دائماً في علاقات وثيقة مع قطر منذ استلامه السلطة قبل عقدين من الزمن، ولم يكن بعيداً عن الواقع ما راج في العامين المذكورين عن “دولة قطر العظمى”، ولكن هذا التضخم للدور القطري لم يكن أساساً بقوة ذاتية بل برافعة أميركية وبدونها كان لا يكون . كما أن هذا الدور القطري  كان يكبر عندما تكون العلاقات السعودية- الأميركية على غير ما يرام، وتستخدم الدوحة للضغط على الرياض كما بفترة توتر العلاقات بزمن أوباما ومفاوضاته مع إيران لعقد الاتفاق النووي 2009-2015 التي عارضتها السعودية أو كما جرى من  قطر وقناة “الجزيرة” بفترة أزمة مقتل خاشقجي عام 2018 التي تم فيها الصلب الإعلامي للسعودية من القناة القطرية ومن وسائل إعلام الأميركية متعددة، وعندما دخلت واشنطن والرياض في شهر عسل وكانت أول زيارة إلى الخارج  للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب  إلى السعودية  في شهر أيار/مايو2017 فإن  عملية حصار “الرباعي” لقطر كان بعد أسبوعين من زيارة ترامب للرياض، وهي كانت عملية مبنية على قراءة لضعف حظوة قطر عند الأميركان  عند دول الرباعي، ولكن أثبتت الوقائع اللاحقة بأنها كانت قراءة خاطئة للصفحة الأميركية من قبلهم.

السؤال الآن: هل الدور المركزي للسعودية والإمارات في مشروع (الممر الاقتصادي الهندي- الشرق أوسطي- الأوروبي)، الذي رعته واشنطن وتم التوقيع عليه في العاصمة الهندية أثناء قمة دول مجموعة العشرين الشهر الجاري، سيعني بداية أفول الدور القطري عند الأميركان كنتيجة لاستبعاد الدوحة من المشروع المذكور، أم لا ؟