فصل من لعبة الأمم شرقي دير الزور

من غير الأخلاقي في كثير من الأحيان أن توجه النقد إلى حليف أو صديق ودماؤه تسيل في لعبة دولية كبرى لا مصلحة له فيها، بل حاول جاهداً ان يكون خارجها. لكن النقد يصير واجباً بعد كل النصائح التي قدمت له في أكثر من مناسبة وتم تجاهلها لأسباب غير معروفة على وجه اليقين. والنقد المقصود هنا هو تبيان الأخطاء في محاولة لتصويب المسار. يجري الحديث على تفجر الأوضاع في بعض مناطق شرق الفرات وشماله، وتوريط قوات سوريا الديمقراطية (قسد) فيها.

يمكن القول اليوم بثقة ومصداقية عالية بعد اثنتي عشرة سنة من المأساة الكبيرة التي حلت بسوريا والسوريين، إن الأسباب الداخلية لتفجر الأزمة السورية المتعلقة أساسا بطبيعة النظام الاستبدادي على أهميتها ما كان لها أن تؤدي إلى هذه المأساة غير المسبوقة في التاريخ، لولا التدخلات الخارجية فيها وإدارتها بطريقة جعلتها مفتوحة لكي يتم تدمير سوريا وتمزيق وحدة شعبها، وإلغاء دورها التاريخي في المنطقة. الصراع على سوريا ليس جديداً، وكتب حوله الكثير، لكن المؤسف حقاً أن السوريين أنفسهم لم يتعلموا منه، بل وشكلوا دائماً أدواته الرئيسة.

من غير المجدي لوم الأطراف الخارجية سواء إيران أم النظام السوري أم تركيا، لدورها في تفجير الأوضاع في شرق دير الزور بين المجلس العسكري التابع أساساً لقسد والمدعوم من قبل بعض العشائر العربية من جهة وقسد من جهة أخرى، فهي أطراف معنية بالمنطقة وتتحين أية فرصة لتغيير الأوضاع فيها، وهي لا تخفي ذلك، بل اللوم كله ينبغي أن يقع بصورة رئيسة على الأطراف التي تدير المنطقة، لفشلها في تحصينها ضد التدخلات الخارجية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً.

اليوم وبعد أن سكتت البنادق، وتم حسم الوضع العسكري لصالح قوات سوريا الديمقراطية، على الأقل راهناً ومؤقتاً، ريثما يتم معالجة الأسباب بصورة جذرية وحاسمة، يمكن القول إن ثمة مفارقة كبيرة شكلت أساساً لمفارقات أخرى منذ البداية، تتعلق بطبيعة الكتلة الاجتماعية والسياسية التاريخية التي تم تحميلها مشروعاً أيدولوجياً ذي طابع إنساني، يمكن تسميته اصطلاحاً “بالأيديولوجيا الأبوجية”، وفي الجوهر منه ما تسميه “بأخوة الشعوب”، ومساواة الرجل بالمرأة، وحق المكونات الشعبية بإدارة نفسها بنفسها. لقد تم تجاهل غير مبرر لطبيعة البنى القبلية والعشائرية والعلاقات الضابطة لهرميتها، لصالح إيدولوجيا غير مفهومة من قبلها، بل من الصعب أن تفهمها أو تتفهمها. ويبدو لي أن هذا التجاهل كان سبباً رئيسا للفشل في بناء نظام إداري وسياسي متجاوز جوهرياً للنظام السوري. كثيراً ما تتم المماثلة في أية نقاشات جادة سواء بين النخب السياسية والثقافية المعارضة، أم في اللقاءات الحوارية، بين مجلس سوريا الديمقراطية والجبهة الوطنية التقدمية للنظام، فكل منهما مكوّن من محور صلب ممثلاً بحزب البعث في جبهة النظام، وبحزب الإتحاد الديمقراطي في مسد تدور في فلكهما أحزاب وقوى سياسية ديكوريه لا أكثر. وذهب البعض في المماثلة بين الإدارة الذاتية ومؤسساتها وأجهزتها، والنظام السوري وأجهزته المختلفة من ناحية انتشار الفساد والمحسوبيات فيهما.

 بغض النظر عن مدى مصداقية هذه المماثلات لكن أحداث دير الزور تبرهن على أن الفساد والمحسوبيات والتجارة بالممنوعات والتهريب كانت حاضرة وبقوة في تفجّر الأزمة، إضافة إلى الشعور بالتهميش من قبل العشائر العربية في المنطقة، وهذا ما أقر به الجنرال مظلوم عبدي في مقابلته الأخيرة مع المنيتور. هذه الأوضاع شكلت منفذاً مفتوحاً لتدخل الأطراف الأخرى، وخصوصاً تركيا وإيران، لتفجير الأوضاع وضرب استقرار المنطقة.

ثمة تجاهل آخر غير مبرر للطبيعة المتقلبة للقبائل والعشائر العربية، وسهولة التأثير فيها من قبل القوى الخارجية سواء بحكم الروابط القبلية والعشائرية الممتدة في مناطق انتشارها، أو بحكم الاغراءات المالية او الوجاهية لها. وإذ يسهل اللعب على مزاجها العشائري لتغيير ولاءاتها، فمن المؤسف حقاً أن يتم التغيير باتجاه تأجيج صراع عربي- كردي على أسس عنصريةـ وهذا ما تعمل عليه بالدرجة الأولى إيران وتركيا.

اللافت في الصراع في شرق دير الزور بين قسد ومجلس دير الزور العسكري والمتضامين معه من بعض العشائر العربية هو الحياد الأميركي الظاهر، وهو برأينا حياد غير بريء. وإذا صح ما ذكره أحد المحللين السياسيين الأتراك على قناة الميادين من أن الرئيس الأميركي جو بايدن قد وعد الرئيس التركي أردوغان في قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة بتحجيم دور الكرد في منطقة نفوذ بلاده كنوع من تشجيعه على الموافقة على انضمام السويد إلى الحلف يصير موقف أمريكا مفهوماً. وإذا تمّت مقاطعة ذلك مع الكثير من الأخبار الصحفية والإعلامية التي تفيد بسعي أمريكا لتشكيل جيش من العشائر العربية لاستخدامه لاحقاً في قطع الطريق على إيران بين العراق وسوريا، خصوصاً إذ صحّت المعلومات عن رفض قوات سوريا الديمقراطية مشاركة أميركا في محاربة إيران غرب الفرات، يصير الموضوع برمته منطقياً.

ما حصل في شرق دير الزور يمكن أن يحصل مرة أخرى وفي أكثر من منطقة، لذلك ينبغي دون تأخير الشروع بحل المشكلات التي تعاني منها وبصورة خاصة مشكلة تهميش المجتمعات القبلية والعشائرية العربية، ويكون ذلك بتمكينها عبر الانتخابات لتكوين مجالس مدنية للإدارة مناطقها بنفسها. من الأهمية بمكان أن تتحمل هذه الإدارات المدنية المسؤوليات الكاملة عن مناطقها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الداخلية وغيرها. ينبغي أن يكون واضحاً إن جميع هذه الإجراءات هي إجراءات مؤقتة لحين حل الأزمة السورية سواء عبر تطبيق القرار 2254 أو عبر مؤتمر حوار وطني لجميع القوى السياسية والمدنية السورية.