كشفت أحداث دير الزور الأخيرة عن وجه آخر لبراغماتية مبتذلة جمعت بين معارضين سوريين، والتي تجلّت في الاحتفاء بالعشيرة وجيشها المتخيّل و”حربها”، إذ باتت هذه العناوين البارزة تطبع مواقف الكثير من المعارضين، وغدا الافتتان بالفزعة والنخوة وما شابهها من مفردات تشي بمعاني العصبية، علاوةً على تأييد نموذج الحروب البدائية، موضع إشادة ووسيلة للاقتصاص من قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وإذا كان النظام قد أدخل العشائر في لعبة الزبائنية والتخديم (خدمة مقابل خدمة) منذ وصول البعث إلى السلطة، فإن بعض المعارضات السورية قدّمت صورة هزلية لتلك السياسات التي اشتغل عليها النظام لعقود متصلة.
قبل اكتشاف سحر العشائرية، سبق لمعارضين سوريين، كان كثيرهم يضع نفسه في خانة الديمقراطيين أو اليساريين، أن ردّدوا نغمات طائفية، وشحذوا أقلامهم وأصواتهم دعماً للإسلاميين والجهادين، لأجل إسقاط النظام. لم يسبب الاحتكام للعنف والحرب الطائفية والاستعانة بالجماعات الجهادية (داعش والنصرة) مشكلة لهؤلاء. بعضهم وصف بندقية تنظيم القاعدة بأنها “بندقية الثورة”، بعض آخر انحاز إلى داعش في المفاضلة بينها وبين النظام دون أن تطلب إليهم المفاضلة أصلاً، وبطبيعة الحال، لم يأخذ السوريون بديمقراطييهم ويسارييهم وقومييهم الكرد والعرب العبرة من الدرس الإيراني الذي عايش مأساته المبكّرة معظم الطيف السوري المعارض، إذ كانت التجربة الإيرانية في عام 1979 شديدة التشابه بأحوال سوريا الراهنة حين وقف يساريو إيران (حزب توده الشيوعي)، والقوميون الكرد (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، وقوى ليبرالية ومحافظة إلى جانب روح الله الخميني، لينال كل هؤلاء مجتمعين جزاء وقوفهم مع فكرة مفادها أن الإطاحة بالديكتاتور، الشاه محمد رضا بهلوي، يستوجب تأييد البديل حتى وإن كان إسلاماً راديكالياً، بحجة أنه يمكن عقلنته فيما بعد ريثما يتم الانتهاء من حكم الشاه. في المحصّلة، نصبت محاكم آية الله خلخالي المشانق وأعدمت معظم أولئك الذين كانوا يتطلّعون لشراكة ممكنة نظرياً مع الخميني.
على أي حال، لم يتعلّم المعارضون المشار إليهم من أن إحداث التغيير الديمقراطي لا يأتي بالاتكال على المجتمعات التقليدية، وأن تخيّل بناء دولة عصرية لا يمرّ بتضخيم دور الجماعات الماضوية (الطائفة، العشيرة…) على حساب الأطر السياسية الحديثة، وبذلك تكون تصرفات المعارضة أشبه بسيرة حزب البعث الذي قاد سوريا إلى كل هذا الخراب العميم. إذ قام مركّب البعث/النظام بتوسيع مساحة العلاقات الزبائنية مع المجتمع التقليدي عبر منح رجال الدين والوجهاء العشائريين مركزاً رمزياً، وجاء ذلك بعد أن تمّت تصفية الأحزاب السياسية وحظر تشكيلها ومسح ملامح المجتمع المدني، ما أفضى إلى تنمية الروابط التقليدية وتحوّل القوى المعبّرة عنها إلى وسيط بين الدولة/النظام والمجتمع، على حساب منظّمات المجتمع المدني والأحزاب.
ما لم يتعلّمه كذلك المعارضون من دورة الهزيمة السابقة أنه لا يمكن صناعة معارضة وطنية تخوض في خطابات طائفية، وأن الاعتماد على عضلات طائفة ضد أخرى إنما يهشم المجتمع كله، فيما شكل الهزيمة الحالية يتبدّى في مديح العشائرية الذي هو في جوهره هجاءٌ للمواطنة؛ فالعشيرة في نهاية المطاف تكوين ما قبل دولتيّ، وهو تنظيم متأخر و”مفوّت” (التعبير للمفكر الراحل وابن مدينة دير الزور ياسين الحافظ).
قد لا نكون بحاجة للاستفاضة في تعريف العشيرة بوصفها تمثيلاً لصلات قرابية مغلقة تقوم على روابط الدم، بمعنى أنها كيانات متحاجزة غير قابلة لأن تتسع بإضافة عناصر من خارجها لها، وحدها الدولة الحديثة استطاعت أن تدمج كل مكوّناتها الإثنية والطائفية والعشائرية داخل حيّز واحد. ولئن كانت سوريا دولة “سلطانية محدثة”، فإنها حافظت على تشكيلات ما قبل ظهور الدولة الوطنية هذه، ورعتها وتحكّمت بها. من الجدير بالملاحظة أن مسألة استخدام العشائر كانت من أدوات الدول الاستعمارية في حين أننا نشهد عملية استخدام محلية هذه المرة من قبل النظام والمعارضة الموالية لتركيا الذين يتصرفان كسلطتي “استعمار وطنيّ”.
خلال أحداث دير الزور الأخيرة لم تقدّم تحليلات من أن سوء الأوضاع المعيشية قد تقود بعض المناطق إلى الاحتجاج غير الواعي (الاحتجاج المسلّح)، وأن مثل هذه الاحتجاجات قد تضاعف مشكلات السوريين وقد يستثمر فيها النظام ودول إقليمية لا يهمها كمية الدم المسفوك لأجل إحداث الفوضى والإمعان في إنهاك المجتمعات المحلية لأجل حكمها. ينبغي أيضاً أن نتوقف عن رؤية الناس بأنهم مجرّد طوائف وعشائر، فهم في المحصلة أفراد يحاولون تكثير أنفسهم عبر روابط قرابية وعشائرية في ظل غياب الدولة أو تعطّل وتضرّر مصالح بعضهم، لم تعد القبيلة العربية والكردية على حدٍّ سواء تستطيع الإجابة عن أسئلة كبرى مثل تقديم الخدمات والأمن والحماية والتشغيل، هذه مسائل تحتاج إلى دولة رشيدة، أو لإدارة ذاتية عليها أن تمكّن السكان المحليين من حكم مناطقهم وفقاً لقوانين يرتضونها لأنفسهم.
في المحصلة، ثمة معارضون أدمنوا الهزيمة نجدهم في كل مفصل يختارون أكثر الرهانات السياسية والاجتماعية خسارة، وأشدّها فتكاً بالمجتمع، لأجل تحقيق غايات لا تدخل بالمطلق في خدمة السوريين.