سوريا ولعبة المعابر الجيوبوليتيكية

تتعدد أشكال النزاعات الجزئية على الساحة السورية من حيث المستفيدين منها أو المشاركين فيها، وذلك أنها نزاعات ما دون المستوى الوطني العام المتمثل باسترداد الدولة من سلطة الاستبداد العسكرية. فعلى الرغم من تراجع مؤشرات نشوب صراع واسع مجدداً في سوريا، فإن مواقع صراعاتها الجزئية لم تحسم بعد، خاصة حول المعابر الحدودية السورية، ما يشير لأهمية سوريا في معادلة الشرق الأوسط دولياً وإقليمياً. لكن وللأسف، لم تدرك غالبية السوريين أهمية سوريا لليوم، وقلّما يستدلّون على إمكانية التوافق الوطني بغية الوصول لحلول بين نزاعات فرقائها واستعادة زمام المبادرة في سبيل حل معضلتها المستعصية سياسياً.

ثمة ضرورة لتقديم خلاصة رؤية دُرست مراراً في أبحاث ودراسات سابقة حول أهمية سوريا وموقعها الجيوبوليتيكي، حيث تتعدد وتتداخل المصالح الدولية فيها؛ فمنذ بدء الحملة الروسية العسكرية على سوريا عام 2015، وتكشّف محددات سياستها الجيوبوليتيكية التي تتجاوز سوريا وإحكام القبضة عليها، وجعلها منطلقاً لعمليات توسعها العالمية بدءاً من تمركزها على البحار الدافئة الجنوبية وربطها بممرات برية استراتيجية، تفرض من خلالها الحل السوري بالقوة العسكرية وفق مصالحها؛ مقابل هذا، ظهر واضحاً انزياح الدور الأميركي عن تموضعه السابق منذ عام 2003 في العراق، وتراجعه الجزئي والمؤقت أمام الفورة الروسية والعمل على امتصاصها ومناورتها وتحجيمها.

الساحة السورية التي باتت لعبة للهيمنة متعددة الأطراف وتقاسم النفوذ الدولي والإقليمي عبر سياسات جيوبوليتيكية شائنة، لم تتمكن روسيا من انهائها كلياً كما تريد، ولم تتقدم أميركا ودول العالم في خطوات جدية في حلها السياسي. وأصبحت سوريا موقعة جيوبوليتيكية متعددة الأهداف والمصالح، تُرسم عبرها خطوط التماس بين القوى الدولية والإقليمية، دون الأخذ بحقوق شعبها وتطلعاته في بناء دولتهم العصرية.

تمكّنت روسيا من تحقيق معظم أهدافها الجيوعسكرية، سواء بتفريغ الداخل السوري من قواه المعارضة العسكرية، أو بإحكام القبضة على الساحل السوري، وربطه تالياً بالممر البري الواصل من موسكو فطهران مروراً ببغداد فمعبر البوكمال البري إلى دمشق ومنه إلى الساحل السوري، وبمساندة ومساعدة الميليشيات الإيرانية. الأمر الذي دعا موجّه سياساتها “ألكسندر دوغين” للتصريح يومها أن “بوليفار” روسيا قد تم تدشينه بهذا الفتح النوعي! بينما لا يزال ترسيم خطوط التماس التركية الروسية حول الخط M5  قيد شد وجذب، إلى اليوم، لم تحسم نتيجته بعد. فيما اختارت أميركا الارتداد الخلفي والتمركز في معبر التنف الواصل بين العراق وسوريا، وعلى مقربة من نقاط التماس الجيوبوليتيكية كمراقب ومحدد لا يبتعد عن توجه السيل الجيوبوليتيكي الروسي مع تجنب الاحتكاك به.

لعبة المعابر الجيوبوليتيكية هذه غرضها الأساسي مصلحة الدول الإقليمية والدولية التي تنظر لسوريا كموقع محوري في تشكيل الشرق الأوسط الجديد كعقدة محاور برية تتقاطع في دمشق. فهي محور بري يمر من طهران الى الساحل السوري وجنوب لبنان مدخله البوكمال، وهي محور روسي تركي يمر من الشمال السوري، وكلاهما يمتد لمعبر نصيب جنوباً ومنه للأردن والخليج العربي. وهي مجرد موقعة لإدارة الأزمة السورية والشرق أوسطية بالنسبة لأميركا، والتي لم تقدم أي مؤشر على ضلوعها الفعلي في حل المسألة السورية من جذرها، مع تجنب أية مواجهة عسكرية مباشرة بينها وبين كل من روسيا أو إيران.

في الجهة الأخرى، يظهر الدور الإيراني في سوريا متجاوزاً حدود لعبة المعابر الجيوبوليتيكية للهيمنة والتوسع الاستعماري العقائدي، إحدى أدواته الهيمنة على المعابر الحدودية، خاصة معبر البوكمال البري الواصل للعمق السوري ولبنان وجنوبه حيث حزب الله، ودعم ميليشياتها العاملة في العمق السوري. ما يجعل أي تحرك عسكري في المنطقة محفوفاً بإمكانية تفجيره من قبل إيران وتهديد أمن الخليج العربي برمته. هذا بينما تتردد في الآونة الأخيرة أنباء متعددة المصادر عن حشود أميركية عسكرية تشير للتجهيز لمعركة كبرى في شرق سوريا لاسيما في البوكمال. والمعلومات تفيد إلى سعي أميركي لحشد فصائل عسكرية سورية بقوام عربي ومن بقايا فصائل الجيش الحر لخوض معركتها، غرضها قطع خط الإمداد الإيراني الى الداخل السوري. تترافق هذه التسريبات مع الترويج لمشروع ربط شرق الفرات بالجنوب السوري عبر البادية الشرقية وإقفال خط تهريب المخدرات السورية إلى دول الخليج العربي عبر الحدود السورية الأردنية الجنوبية. وإذ لا يمكن التكهن بسير وهدف الحشود الأميركية لليوم، لكنها بدت أولياً كحشود تفاوضية بضغط القوة العسكرية يتحقق منها التزام إيران بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم عند 60% والإفراج عن الصحفيين الأميركيين وعدم تهديد أمن الخليج. مقابل غض النظر الأميركي عن حصة من الكعكة السورية لإيران، ورفع جزئي للعقوبات الاقتصادية، والذي أدى للإفراج عن 6 مليار دولار مجمدة أمريكياً. فهل تتوقف المسألة هنا؟

سياق الحدث السوري وتعقيداته يبدو أنه لا نهاية له، فقد تزامنت لعبة المعابر السورية مع زيادة في حدة النزاعات بين العشائر العربية في دير الزور وشرق الفرات مع قوات سوريا الديمقراطية، وصلت لدرجة القتال المسلح وخسارة ضحايا من كلا الطرفين. فيما تتباين التقارير عن مسؤولية أطرافها وسبب تطور أحداثها لهذه الدرجة الدموية التي تزيد من الشروخ العربية الكردية سورياً. ما يفتح باب التساؤل المتكرر سواء حول جدية الحشود الأميركية في فتح معركة بالبوكمال، أو عن الدور الإيراني في افتعاله بين الأطراف المرشحة للمشاركة فيها وغرضها تجنب أي عمل عسكري ضد ميليشياتها هناك وإضعاف الجميع أمامها.

تدرك القوى الإقليمية والدولية مدى أهمية سوريا كمحور تمركز للقوى العالمية بطرق متعددة، عسكرياً وسياسياً وجيوبوليتيكياً، وأهمية السيطرة على معابرها البرية ومنافذها البحرية، وقادرة بكل الطرق العسكرية والسياسية الوصول لأهدافها. وتدرك كل من أميركا وروسيا وتركيا وإيران أهمية تفادي الصدام المباشر بينهم، وأهمية التمركز في سوريا. أما الذين لم يدركوا بعد إلى اليوم أهمية سورية هذه، هم غالبية قواها العسكرية والسياسية المحسوبة على المعارضة، والتي لم تستطع أن تفرض شروطها السورية على اللاعبين الدوليين خاصة وأنهم أصحاب الأرض ومحدد أي تحرك دولي يستند عليه، فما أسرعهم بالتراكض خلف المصالح الضيقة ووهم ما تروّجه لهم السياسات الخارجية دون أن يأخذوا بالحسبان المصلحة السورية والتفاوض على أساسها. ليتكرر المشهد مراراً وتكراراً دون مراكمة الخبرة والتعلم! فماذا لو أصرّت قوى المعارضة السورية على أنها لن تدخل لعبة معبر البوكمال ووهم الانفتاح للجنوب السوري إلا اذا تفاهمت قسد والائتلاف وقوى العشائر العربية على تعاون سياسي وعسكري ومالي متضح المعالم يستهدف مصلحة السوريين عامة، ويشكل حلقة ضغط كبرى على الوجود الإيراني برمته في سوريا، ومقدمة لفرض شروط الحل السوري، إذ إن نزاعاتها المتكررة تضعفها جميعاً وتتيح الفرصة الواسعة لإيران وروسيا وحتى أميركا لتحقيق أهدافها، فيما الخسارة سورية بامتياز؟