السويداء ليست الآن مثل درعا في عام2011

في يوم الجمعة 18آذار/مارس2011 انطلقت مظاهرات في مدينة درعا، امتدت في الأيام التالية للكثير من بلدات منطقة حوران، وفي أسابيع تالية امتدت لمدن اللاذقية وحمص ولأرياف دمشق وادلب، وفي خلال أشهر كان هناك حراكاً  اجتماعياً  واسعاً  تجسّد أيضاً في مظاهرات ضخمة جرت في مدن حماة وديرالزور وفي أرياف حمص وحلب وحماة وديرالزور. كان ذلك حراكاً اجتماعياً واسعاً تجسد في مظاهرات. ولكن، لم تكن له مطالب موحدة ولا قيادة واحدة، وهو انتقل من مظاهرات سلمية نحو حمل السلاح في فترة بدأت في خريف عام 2011 وهو ما ترافق مع المراهنة على التدخل العسكري الخارجي، بالتزامن مع تزعم الإسلاميين للمعارضة السورية .

 أنشأ هذا أزمة سورية داخلية، من حيث عدم استطاعة أي من طرفي النزاع الداخلي التغلب على الطرف الآخر، ومن حيث عدم قدرتهما على انتاج تسوية بينهما للنزاع، ثم تحولت الأزمة الداخلية إلى إقليمية مع تدخل تركيا لصالح المعارضة منذ شهر آب/أغسطس 2011 وإيران لصالح السلطة ثم تحولت إلى أزمة دولية في يوم4 تشرين الأول/أوكتوبر2011مع الفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع قرار مدعوم من الولايات المتحدة الأميركية التي بدأت آنذاك بالوقوف وراء أنقرة الداعمة الرئيسية للمعارضة الإسلامية المسلحة. عملياً كان ما بدأ في درعا قد قاد كشرارة إلى أكبر أزمة دولية – اقليمية –  داخلية شهدها المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، من حيث عوامل تغذّيتها الخارجية الدولية – الإقليمية  وكمية حطبها الداخلي القابل للاشتعال وتأثيرها على المحيط الخارجي الإقليمي والدولي وكانت أكبر نبع لتدفق اللاجئين بالتاريخ الحديث – المعاصر  وبيئة خصبة أكثر من أفغانستان والعراق  للمنظمات الإسلامية  العابرة للحدود منذ عام 2016أصبحت الأزمة السورية صراعاً مجمداً، يرى الخارج الدولي- الإقليمي تركه في الفريزر .

هنا، لم يكن هناك “ثورة سورية” وفق التعريف الذي قدمه تشارلز تيلي مؤسس علم النزاعات في علم الاجتماع المعاصر، من حيث أن الثورة مشروط تحققها بوجود ثلاثة أمور ، هي: 1- ظهور منافسين للسلطة يقدمون مطالب حصرية تحوي بديلاً . 2- التزامات كاملة بهذه المطالب. 3- عجز الحكومة عن القمع (تشارلز تيلي: “من التعبئة إلى الثورة” ، منشورات جامعة ميتشيغان،1977،ص161،نسخة ب د ف) ، بل انتفاضة أو حراك اجتماعي عريض واسع فشل في تحقيق مطالبه ، ولكنه ولّد أزمة سورية مازالت مستمرة ، وقد أصبح الخارج الأميركي- الروسي- التركي-  الإيراني هو المتحكم بمساراتها وفق منحيين: 1- (صراع في سوريا)  و2- (صراع على سوريا).

الآن، ومنذ ثلاثة أسابيع مع بدء مظاهرات في محافظة السويداء بدأت بطرح مطالب اقتصادية – اجتماعية ثم انتقلت نحو طابق أعلى هو مطالب سياسية مثل تطبيق القرار الدولي 2254 الذي يطالب بانتقال سياسي، بدأ معارضون سوريون، أغلبهم في الخارج وبعضهم بالداخل، بالحديث عن “ثورة مستمرة”، وعن أن ما بدأ في السويداء سينتقل إلى أماكن سورية متعددة جرى التركيز من قبلهم  على أنها ستكون في حوران والساحل .

لم يتحقق شيء من هذه التوقعات خلال الأسابيع الماضية. وعليه، يجب فحص الأمور ومراجعتها من خلال: أولاً، طبقاً للتعريف العملي الذي قدّمه تيلي، لم يكن هناك من ثورة في سوريا في عام2011 وما بعدها ، وهو التعريف المعتمد خلال ما يقرب نصف قرن في علم الاجتماع السياسي لفحص الثورات والانتفاضات والانقلابات والتمردات والحركات الاجتماعية، بل الأقرب أنه كان انتفاضة وحراك لاقى قاعدة اجتماعية قوية في الريف السني العربي، بعد تدهور وضع الزراعة السورية في فترة 2004-2011، وفي بعض المدن التي شعرت بالتهميش الاقتصادي مثل حمص بعد تحول الطرق البرية عن قلب مدينة حمص نتيجة إنشاء الأوتوسترادات الجديدة بين حلب ودمشق والساحل ودمشق وإنشاء خط مباشر بين دمشق والمنطقة الشرقية عبر تدمر – الضمير، بينما في مدن كبرى مثل دمشق وحلب وقف التجار والصناعيون والفئات الوسطى مع السلطة ومازالوا، أغلب  من كان في المعارضة السورية في عامي 2011 و 2012 لم يكونوا واعين لهذا الأمر بينما شخص مثل اللواء قاسم سليماني، قائد (فيلق القدس) الإيراني، كان مدركاً له  منذ عام2012، وهي أصعب سنة عاشتها السلطة السورية التي ساندتها إيران، حيث قال سليماني في محاضرة أمام (مؤتمر شباب الصحوة الإسلامية بطهران يوم 18كانون الثاني2012): “الحركة الجماهيرية في سوريا ليست في المدن بل في القرى، وستستمر كذلك، وبالتالي فإن المرض السوري لن يقود إلى موت الحكومة ” (جوزيف هوليداي: “المعارضة السورية المسلحة “،معهد دراسة الحرب،واشنطن،آذار2012 ص 36). لهذا السبب كان اتجاه السلفية الجهادية منذ 2011هو الأقوى بين الإسلاميين الذين تزعّموا المعارضة المسلحة السورية، حيث دائماً وفي الأغلب مرتكز هذا الاتجاه هو ريفي وهو ما نجده في مصر أيضاً، بينما الاخوان المسلمون مرتكزهم في المدن، وهو ما وجدناه في أحداث 1979-1982عندما كان الإسلاميون المعارضون مرتكزهم الأساسي في مدينتي حماة وحلب مع استثناء إدلبيّ ملفت للنظر حيث كانوا أقوياء في محافظة إدلب بالريف والمدن والبلدات.

ثانياً، لا توجد “ثورات مستمرة” لأكثر من عقد من الزمن. وأكبر ثورة من حيث العمر كانت الثورة الإنكليزية التي قام بها البرلمان ضد الملك بين عامي 1642و1649وقادت لحرب أهلية انتهت بقطع رأس الملك تشارلز الأول. الثورة الفرنسية استغرقت خمس سنوات وانتهت بقطع رأس روبسبيير في تموز 1794 ثم قاد هذا لحكم المديرين (الديركتوار) ومن ثم نابليون بونابرت منذ انقلاب الثامن عشر من برومير عام 1799حتى هزيمته في معركة واترلو عام 1815 وعودة آل بوربون للحكم بقوة حراب الأجنبي (البريطانيون والروس والبروسيون والنمساويون) المنتصرون على نابليون.

ثالثاً، الثورات أو الانتفاضات عندما تهزم ينام جسمها الاجتماعي ويستكين  لما يقرب من عقدين من الزمن وأحياناً أكثر. فشلت الثورة الإنكليزية عام 1660وعاد ابن الملك المعدوم للحكم بدعم فرنسي ثم حصلت ثورة ثانية ضد أخيه عام1688بسبب تبعيته للفرنسيين ولمحاولته إعادة الكاثوليكية وبسبب أسلوبه في الحكم المطلق. قامت ثورة 1830 الفرنسية وفشلت في إعادة الحكم الثوري وقبلت وسطياً بحكم آل أورليان بدلاً من آل بوربون ثم قامت ثورة 1848وأتت بحكم جمهوري ولكنها انتهت بالفشل في يوم 2 كانون الأول1851مع انقلاب لوي بونابرت الذي اتجه إلى تنصيب نفسه امبراطوراً. في عام1871حصلت كومونة باريس بعد أشهر من هزيمة الفرنسيين أمام الألمان في معركة سيدان وأسر الامبراطور نابليون الثالث ، وفشلت أيضاً، ولم تستكن فرنسا وتتوقف عن الغليان الاجتماعي إلا بعد تسوية 1905التي قضت بالعلمنة وهو ماحل مشكلة صراع قرن بين القوى المحافظة التي تريد العودة لما قبل ثورة 1789والقوى الثورية .الاستثناء الوحيد كانت ثورة شباط1917الروسية التي أتت بعد أحد عشر عاماً من فشل ثورة 1905، والأرجح بسبب ظرف الحكم القيصري الذي ترنح في ساحات معارك الحرب العالمية الأولى، والاستثناء الأقوى والفريد كانت ثورة أوكتوبر1917التي كانت تركيباً بين “ثورة مستمرة” ، وفق تعبير تروتسكي :”ثورة دائمة”، من ثورة شباط، وبين ثورة عليها.

رابعاً،في الثورات والانتفاضات والحراكات وحتى في الانقلابات العسكرية ينقسم المجتمع بين فئات ثلاثة :1- مؤيد،2-معارض،3- متردد . في سوريا ما بعد درعا 18آذار2011 كانت هذه التقسيمات الثلاث متساوية في أثلاث ثلاثة. زادت فئة المؤيدين بين المترددين بعد وضوح الطابع الإسلامي لقيادة المعارضة السورية بخريف2011 ثم انتقل قسم كبير من المترددين نحو فئة المؤيدين في فترة ما بعد 2016عندما وضحت هزيمة المعارضة المسلحة السورية، كما انتقل قسم كبير من المعارضين من الخط المتشدد الذي كان ينادي بخط: “إسقاط النظام” إلى خط تسووي معارض  يقبل بالقرار2254 الذي صدر بتوافق أميركي- روسي في 18كانون الأول\ديسمبر2015، وبعض المعارضين أصبح أقرب للعدمية السياسية، أو لمعارض فيسبوكي يجلس بالخارج ولا يعرف شيئاً عن الداخل ويمارس التهويم الرغبوي السياسي الذي لا يبنى على الوقائع على الأرض.

خامساً، وفق هذا التقسيم الثلاثي، كانت السويداء بغالبية جسمها الاجتماعي بفترة2011-2023ضمن فئة المترددين، ويبدو أنها انتقلت نحو المعارضة ليس بمعناها المطلبي الاقتصادي- الاجتماعي بل بمعناها السياسي في عام 2023، ولكنها خلال أسابيع ثلاثة من حراكها ستبقى وحيدة على ما يبدو، لأن مواقع التأييد للسلطة وفق كل المؤشرات  لن تغيّر موقعها نحو السقف السياسي بل ستبقى ضمن القضايا المطلبية الاقتصادية- الاجتماعية في ظل الأزمة الاقتصادية الكبرى الراهنة التي بدأت  في خريف 2019 ولكن من خلال مناشدات للجهات الرسمية ومن دون أن يتجه ذلك نحو أي حراك، بينما أثبتت حوران بأن المناطق التي تهزم وتفشل في حراكها الاجتماعي المعارض تفضّل السكون.

بالمجمل، أثبت حراك السويداء وأعطى صورة عن جسم اجتماعي سوري مختلف عن درعا 2011 حيث هناك تلاشي لفئة المترددين وأن هناك جسماً موالياً  هو الأقوى أو الأكثر من الناحية الاجتماعية في الأماكن التي هي جغرافياً تحت سيطرة السلطة السورية، فيما الوضع مختلف عن ذلك في منطقتي الشمال الشرقي السوري والشمال الغربي السوري. أيضاً، أظهرت (السويداء) أن الكثير من المعارضين، وخاصة  الذين يعيشون في الخارج ولا تربطهم صلات بمنظمات معارضة بالداخل، هم  على بعد قصي من الواقع السوري . حتى الآن ، لا يعرف ولا يمكن التنبؤ إن كان حراك محافظة السويداء سيقود إلى تسوية مع السلطة السورية أم إلى أمر آخر.