ظاهرة “الاستكراد” في العقل الثقافي و السياسي

في البداية لا بدّ من توضيح استخدام مصطلح “الاستكراد” المستخدم هنا، فهو يحاكي مصطلح “الإستشراق” لدى إدوارد سعيد ، ولعل دافع استخدام سعيد لهذه الفكرة يعود إلى ما كان ينشر في الإعلام الأمريكي عن الشرق الأوسط بعد عام 1973، بالإضافة إلى ضرورة الرد على المستشرقين المؤدلجين وعلى أهمّ فكرة في موضوعات الاستشراق وهي “أن المسلمين عاجزون عن تمثيل أنفسهم، لذا يتوجب تمثيلهم من قبل آخرين يعرفون عن الإسلام أكثر مما يعرف الإسلام عن نفسه”. ومن المفارقات الصارخة أن إدوارد سعيد في كتابه “خيانة المثقفين” يدين المثقفين الصامتين ويعتبر “الكل مسؤول عن تحرير فلسطين” (خيانة المثقفين، ترجمة أسعد الحسين، ص 318)، ويتم توجيه أصابع الخيانة باتجاه الصامتين والمؤيدين لوجهة النظر الأخرى، في حين يقوم هو بالفعل نفسه فيما خصّ معاناة الكرد، إذ نراه يتضامن مع  جنوب أفريقيا وكوسوفو والألبان والفيتناميين والروانديين والبوسنيين، ويبدي غضبه على عدم إيلاء العالم الاهتمام اللازم بالكفاح الفلسطيني و ينتقدهم لأنهم لا يرونه “فعلاً أخلاقياً عظيماً”، مستعيراً التوصيف الذي أطلقه نيلسون مانديلا على كفاحه ورفاقه ضد نظام الأبارتهايد العنصري، بينما نجده صامتاً إزاء الكفاح الكردي، متنكراً له، مغمضاً عينيه عن المجازر الوحشية التي يتعرض لها الكرد. وفي حال حضور الموضوع الكردي، فلا يتعدى الأمر سوى انتقاد عابر “للوحشية التركية المتواصلة” ضدهم على حد تعبيره، أو اقتصار الأمر على رؤيته فرداً يخضع مثله مثل أي مواطن آخر إلى قمع النظام واستبداده، دون التطرق إلى أية خصوصية كولونيالية يخضع لها وطن الكردي المجزأ. وهذا ما يتوضح جلياً في سياق المثال الذي يسوقه إدوارد سعيد في كتابه سالف الذكر “في اليوم السابق قابلت كردي عراقي شاب فر حديثاً من بلاده. هناك، أخبرني، إن أراد أحد ما أن يضر بك، يكتب تقريراً للأمن يتهمك فيه بأنك عدو للدولة: الاحتمال القوي هو أن تختفي أنت وعائلتك بعد ذلك. كم دولة في العالم اليوم يصح فيها هذا وكم دولة منها عربية؟ أنا مرتبك جدا لأسأل.”

وإلى جانب الاستكراد الأكاديمي، ثمة استكراد آخر يدور  في الحقلين السياسي والشعبي العربي، ويتجلى هنا على مستويين، الأول: هو المستوى الذي يحاكي فيه مصطلح الاستشراق، وهي النظرية التي يتبّناها من يرى نفسه وصياً عاقلاً على الكرد القاصرين، العاجزين عن تمثيل أنفسهم، لذا يتوجب تمثيلهم من قبل آخرين يعرفون مصلحتهم ومصلحة “الوطن” أكثر منهم، فيجدون أنه من حقهم تقرير مصير الكرد بدلاً عنهم. فيما يتجسد المستوى الثاني في كلمات على شاكلة “تستكردني” (تعتبرني غبيّاً) الدارجة في الثقافة العامية، مضافة إليها مهناً تعبّر عن المهانة كتنظيف الأحذية وغيرها، واعتبارها ماركة مسجلة باسم الكرد.

يمكن تلخيص إحدى وصفات حل المشكلة الكردية في جملة واحدة، أسميها هنا وصفةً سحرية، وهي أن يتمنى الآخر للكردي ما يتمناه لنفسه. وقد يوافق أحد “الشركاء” الآن ويقول هذا ما أفعله منذ زمن بعيد، وأطالب بالمساواة والعيش في ظل دولة المواطنة، وهو ما يعني في الغالب أن يرتضي الكردي العيش مثله مثل العربي في كنف الجمهورية العربية السورية، التي ستظل العربية فيها اللغة الرسمية الوحيدة، وفي حال مطالبة الكردي بأن تتحول لغته أيضاً إلى لغة رسمية، أسوةً بالعربية، يتحول مطلبه إلى جريمة يعاقب عليها القانون. في هذا السياق تتلخص الوصفة بأن يستوعب العربي حديث الكردي عن كردستان بوصفها الجغرافية الكردية الممتدة على أربعة دول، لا أن يتهمه ويحاكمه ويزجه في السجون لأجل ذلك. وأن يتفهم الشريك العربي تالياً تسميته الكردي لدياره بغربي كردستان، تماماً مثلما يتفهم الكردي شريكه العربي حين يسمي العربي سوريا “القطر السوري”. كما تعني المساواة أيضاً، أن يحيي العربي العلم الكردي كل صباح، كما يحيي الكردي علمه كل صباح ويردد معه أناشيده بلغته. وأن تتحول الكردية لغة رسمية للدولة، مثلها مثل العربية.

إن الأكثرية العددية لقومية ما لا تبيح لها منع لغة مواطنين آخرين أقل عدداً. ربما لا تعني المساواة في دولة المواطنة التي يجري الحديث عنها سوى أن يشارك الكردي في كل حروبها ضد أعدائها دون اعتراض، في حين يعتبر العربي أن تحالفه مع النظام التركي الذي يستعدي الكرديّ في هذه الأثناء أمراً طبيعياً؛ فيدخل في خدمته ويتعامل معه بحكم ما يتوهم أنه “إلتقاء مصالح”. وتكون علاقة الكردي، إن وجدت، مع عدو العربي خيانة وطنية عظمى تستوجب أشد العقوبات. وعليه، تشير الوصفة باختصار بأن مطالبة العربي لشريكه الكردي مراعاة حساسياته القومية تجاه إسرائيل، تستوجب مراعاة العربي لحساسيات شريكه الكردي القومية تجاه تركيا سواءً بسواء. بكلمات أخرى: ماذا لو لجأ الكرد إلى التحالف مع إسرائيل لنيل حقوقهم بحكم التقاء المصالح؟ وقتذاك، لن يستطيع العربي السوري، المعارض منه بشكل خاص، فك لغز استعصاء شريكه الكردي، إلا إذا فهم أن ما يفعله اليوم تحالفاً مع النظام التركي بأنه يساوي ما يقوم به الكردي، افتراضاً، مع إسرائيل.  

لقد ألحقتُ صفة “السحرية” بالوصفة السابقة لاعتقادي الراسخ بأن الذهنية القوموية، سواء على مستوى النخب الثقافية أو على مستوى الذهنية السياسية، بعيدة كل البعد عن تقبل الحقيقة الكردية كما هي، وأنها تتبنى منظور “الاستكراد” بأسوأ تجلياته، وما من مؤشّر على تخلي النخب الثقافية والسياسية العربية عن هذه الظاهرة على المدى المنظور. ومن المؤسف القول أن حل المشكلة الكردية في سوريا سيحتكم إلى النتائج المتمخضة عن ميادين المواجهات العسكرية، وعن ما ستفرضه موازين القوى الدولية الفاعلة على الساحة السورية.