شيروان يوسف
تشهد المناطق الشرقية من سوريا منذ فترة وجيزة تحركات أمريكية مكثفة، إذ بقيت هذه المنطقة في حالة من التوتر المتوازن بعد إلحاق الهزائم المتواصلة بتنظيم داعش طوال السنوات الماضية، وذلك ضمن إيقاع “قواعد الاشتباك” و”خفض التصعيد” بين واشنطن وموسكو.
ولكن يبدو أن هذا التوازن المتفق عليه بشكل غير مباشر ضمن التفاهمات الروسية الأمريكية في مناطق التماس بشمال شرقي سوريا أخذ يتجه نحو منحى آخر وخاصة بعد الاحتكاكات الجوية الأخيرة بين سوخوي وإف16.
من جهة أخرى كانت هناك مناوشات إيرانية أمريكية ضمن حدود معينة، لا تتجاوز بعض رشقات إيرانية في محيط “القرية الخضراء” في حقل العمر، تقابلها ضربات أمريكية متقطعة ضد شخصيات أو مقرات عسكرية في الضفة الأخرى من نهر الفرات.
من الواضح أن هذا التوازن قد اختلّ في الفترة الأخيرة بشكل فاضح، وبدأ الحديث عنه على المنابر الإعلامية ومن أفواه أصحاب القرار، ما يشير إلى تصعيد عسكري مباشر في تلك المنطقة التي تعتبر بركاناً خامداً نتيجة تداخل مناطق نفوذ اللاعبين الدوليين والإقليميين.
جاءت التحركات الأمريكية مع زيادة القصف الإيراني المباشر على القاعدة الأمريكية في حقل العمر أو وفق ما تسمى بالقرية الخضراء، فقامت بتزويد قواعدها في دير الزور والحسكة بقاذفات صواريخ “هيمارس” الدفاعية، التي تعدّ من الأسلحة المهمة في ترسانة أمريكيا داخل سوريا، كما تواردت معلومات عن بناء قاعدة عسكرية جديدة في منطقة السويدية بريف الرقة الغربي، القريبة من مدينة الطبقة، وجهَّزت قاعدة أخرى عند مدخل الرقة الجنوبي، إلى جانب أن قواعد التحالف الدولي في التنف وشرقي الفرات شهدت مناورات وتدريبات مشتركة.
لم تكتف القوات الأمريكية بالشمال الشرقي والشرقي فقط، وإنما عملت على جبهتها الجنوبية أيضاً، فقامت بنشر طائرات “إف 22 رابورت” في قاعدة موفق السلطي شمالي الأردن، وتعد هذه الطائرات أفضل الأنواع المقاتلة من الجيل الخامس، بالإضافة إلى تجهيز فرقة عمل جديدة للطائرات من دون طيار في تلك القاعدة.
تحدثت الولايات المتحدة الأمريكية في مناسبات عدة عبر سياسييها عمّا تعتقد أنها مخاطر روسية-إيرانية محتملة. وأكد مراقبون ومراكز رصد أن تلك التدريبات والتحشيدات تتخطى مهام قتال “داعش”.
وعندما توجهت نورث برس، إلى القيادة المركزية الأميركية لمعرفة نوايا التحركات الأخيرة على الحدود العراقية السورية، قال المتحدث باسمها اللواء جون مور، إن ما يجري هناك ليس سوى تحركات لوجستية ضرورية لإتمام عملية استبدال أفراد الجيش الأميركي، الذين انتهت مدّة إقامتهم، بأفراد آخرين قادمين، وهذا الأمر يدعو إلى “استنفار أمني عالي المستوى”.
غير أن الإيرانيين لا يقيمون لهذا الكلام أية قيمة؛ فبحسب بحث لمركز الإمارات للدارسات، هناك سعي إيراني “للاستفادة من مناخ المتغيرات الإقليمية، وبخاصة حالة الجفاء العربي-الأمريكي، والمصالحة بين إيران والسعودية، وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، لترسيخ نفوذها وإظهار عدائها للأمريكيين في شرقي سوريا على أنه جزء من سياق إقليمي يرفض السياسات الأمريكية وتدخلاتها في الشأن الإقليمي”.
وفق ما هو متابع، بدأت إيران العمل على هذا الموضوع ميدانياً وقامت بفتح مراكز تطوع في مدينة ديرالزور للانضمام إلى “المقاومة الشعبية” منذ عدة أعوام. ففي أغسطس 2020، عقدت عشيرة العكيدات ملتقى عشائرياً في مناطق واقعة تحت سيطرة النظام السوري ضد القوات الأمريكية وقوات “قسد”. حينها علّقت جريدة الأخبار اللبنانية، المقرّبة من إيران وحزب الله اللبناني، على الأمر بأن النظام السوري يدعم هذه المجموعة بالسلاح ويقف وراء تحركاتها كمجموعات شعبية وطنية ضد “الاحتلال”.
بدا الأمريكيون يتوجسون من مخطط إيراني-روسي دخل مرحلة التنفيذ، يمكن أن تكون المرحلة المقبلة صعبة ومكلّفة لوجودهم في شرقي سوريا، وكان قد كشف تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية عن وثائق استخباراتية أمريكية عن وجود خطط لتنفيذ حملة واسعة النطاق ضد القوات الأمريكية بواسطة “المقاومة الشعبية”.
وبالفعل، منذ بداية العام الحالي، وبحسب ما سجله قسم الرصد والتوثيق في نورث برس، استهدفت إيران 4 مرات قواعد التحالف الدولي في دير الزور بـ8 ضربات واحدة منها كانت بطائرة مسيرة، من بينها كانت ضربتان موجعتان للأمريكيان في حقل العمر النفطي في 18 فبراير/شباط الماضي، فيما أشعلت الضربة التي وقعت في 24 مارس/آذار إنذار الخطر، إذ أسفرت عن إصابة 6 جنود أميركيين ومقتل آخر.
أما قوات سوريا الديمقراطية التي تسعى للنأي بنفسها عن صراعات لا تخدم أهدافها في حماية مناطق سيطرتها، عملت في هذه الأثناء على ترتيب بيتها الداخلي، فقامت بعزل قائد مجلسها في ديرالزور أحمد الخبيل المعروف بـ”أبو خولة”، إثر سلسلة ارتكابات متعلقة بالتهريب والتحكم بشؤون سكان ديرالزور وتجاوز دوره العسكري، وفتح المجال تالياً أمام الفوضى الأمنية في المنطقة. لكن يبدو أن أبو خولة كان قد حضّر لهكذا سيناريو عبر تجميع الأموال ونشر السلاح وتشكيل مجموعته الخاصة داخل قسد، مع ورود معلومات عن تنسيقه مع النظام السوري واتصالاته بالإيرانيين.
بطبيعة الحال مثّلت الاضطرابات الحاصلة في بعض مناطق دير الزور فرصة سانحة لخصوم قسد المتربصين في محيطها، حيث النظام السوري والمليشيات الإيرانية في الجنوب وصولاً إلى الفصائل التابعة لتركيا في الشمال.
وعلى هذا الإيقاع بدأت الطبول الإعلامية لمحور طهران- دمشق- بيروت تُقرع وتروّج لقصة التحشيد الأمريكية في شرقي سوريا، وبدأت أبواق النظام تروّج بدورها لنظرية متهافتة حول استخدام الكرد في هذه الحرب، لتتم إعادة تدوير البروباغندا الجاهزة حول قرب “طرد القوات الأمريكية” واتهام الكرد بالسعي للانفصال. إلى ذلك عمدت دمشق إلى تأجيج فتنة كردية-عربية، وبالمثل فعلت غرف عمليات المخابرات التركية بالاستناد إلى ثلة من شيوخ ومعارضين ونشطاء، وتجيير المنابر الإعلامية المحسوبة على تركيا لهذا الغرض.
ومع تواصل تأجيج الفتن في ديرالزور، بدأ الإيرانيون حربهم عن طريق ما يسمّى “المقاومة الشعبية”، وبعض الشيوخ المجندين لدى طهران أمثال إبراهيم الهفل ونواف البشير. وعليه، فقد بدأت عناصر الدفاع الوطني التابع لإيران بالتسلل إلى الضفة الشرقية لديرالزور باستخدام زوارق نهرية ومحمّلين بصواريخ إيرانية، وبدأوا بالفعل حربهم بالتخفي بين المدنيين وتحت عباءة العشائر مع السعير المتعالي من منابرهم بطرد “المحتل الكردي” من المنطقة.
يدور هذا الصراع الحاد والخطير في محيط القرية الخضراء الأمريكية بحقل العمر، وهذه الأخيرة أدلت بتصريحات عامة داعية إلى الاستقرار دون أن يكون هناك أي مساندة ميدانية لحليفتها قسد التي تحاول وقف مسعى إيران التقدم على بُعد بضعة أمتار من قاعدتها الاستراتيجية في سوريا!
يتصرف الأمريكيون كطرف حياديّ، وكأنهم خارج هذا الصراع الخطير، وربما تهدف واشنطن من وراء هذه الخطوة إلى “إرضاء بعض الأطراف العربية المحلية واتخاذ إجراء تحوطي لمنع نجاح جهود روسيا وإيران والنظام السوري في تحريضهم ضد القوات الأمريكية” وفق ما ترى وحدة دراسات المشرق العربي في دراسة أعدتها عن هذا الموضوع.
وتذهب تلك الوحدة أبعد من ذلك وتقول إن الأمريكيين يهدفون إلى إرضاء تركيا، عبر احتمال وضع القوى العربية غير المنخرطة في هياكل “قسد” على الحدود، وبالتالي إضعاف ذريعة تركيا بمهاجمة مناطق شرقي الفرات والتأثير في النفوذ الأمريكي في المنطقة.
بالمجمل فقد دخل المخطط الإيراني-الروسي مرحلة التنفيذ، ما يشير إلى مرحلة صعبة ومكلفة للوجود الأمريكي في شرقي سوريا، ويمكن أن تخرج هذه الفوضى التي تحولت خلال الأيام المنصرمة إلى حرب ميدانية مباشرة، من حالة التوازن التي تسعى إليها واشنطن إلى مسارات خطيرة قد يصعب معها ضبط “الفوضى”.
الترتيبات التي قامت بها الأمريكيون عبر جلب الأسلحة النوعية إلى المنطقة لضبط الإيقاع والاكتفاء بالتهديدات الكلاسيكية إعلامياً وسياسياً، باتت غير كافية، لأن الحرب الإيرانية قد بدأت بالفعل في ديرالزور وهذه أولى المعارك المكشوفة لـ”المقاومة الشعبية” ضد الوجود الأمريكي في سوريا.