يُلاحظ في المشهد العام للاضطرابات الحاصلة في بعض قرى دير الزور مقدار الخلط الحاصل للأحداث، ورغبة القوى المختلفة والمؤتلفة تأجيج صراعٍ عدميّ يراد منه أن ينتهي إلى تقدّم أحد هذه القوى على حساب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتحالفاتها مع المجتمعات المحلّية والعشائر؛ فمن ناحية نعثر على استثمار هائل للنظام وإيران في الحدث الديريّ رغبة منهما في التمدّد شرقاً ولو على أشلاء أبناء المنطقة، فيما تحاول تركيا و”الائتلاف” تأجيج الصراع حتى يتمكّنا من استمالة مَن يمكن استمالته في منطقة ابتعدت كثيراً عن الهوى التركي منذ أن تمّ القضاء على حكم داعش. على هذا النحو يتفق الأخصام في هدفين: انسحاب الولايات المتحدة على هدي الاضطرابات الأخيرة، وثانياً إضعاف قسد ما أمكن.
تسعى تركيا لأن تنتهي الاضطرابات إلى صراع قوميّ يفضي إلى فصم عرى التحالف العربي الكردي داخل قوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي تخلّي التحالف الدولي وواشنطن عن تحالفهما الأثير مع قسد، ولعل بيان الخارجية التركية، الذي أظهر رجاءً أقرب للتوسّل من الدول الداعمة لقسد بغية وقف دعمها لها يصف مقدار لهفة تركيا لتنامي المشكلات في دير الزور حتى تصدّق واشنطن رؤيتها لمستقبل المنطقة، وعلى الجانب التركي يمكن أيضاً ملاحظة الاستعانة بشخصيات عشائرية يفترض أنها تشغل مناصب سياسية داخل “الائتلاف” لتأجيج المشكلات والدعوة إلى هبّة عشائرية ضد قسد بلغت فيها التهويمات إلى حدّ قول أحدهم أن نسوة العشائر هنّ “عرضنا” في تحريف مبتذل لمَ يجري على الأرض، واستعادة لمنطق “الفزعة” و”النخوة”، لكن في غير محلّهما.
في إزاء سعي تركيا التي يبدو أنها تفضّل عودة النظام لبسط سيطرته على دير الزور وحلول إيران مكان واشنطن، فإن النظام السوري وإيران يحاولان جاهدين التقدّم في فضاء من الفوضى أشاعته عملية التمرّد التي قام بها أحمد الخبيل ومجموعته والتي قالت أوساط مقرّبة من قسد أنه كان على تنسيقٍ بالإيرانيين، ولعل أفضل مسار تتقدّم من خلاله إيران إلى الكيلومتر صفر بالقرب من القواعد الأميركية هو مسار الفوضى وإرباك العشائر المستقرّة في علاقتها مع قسد، والاعتماد تالياً على وجهاء عشائر موالين لها. وإذا كان هذا الترتيب لا يخدم مصلحة السكان، فإنه كفيل بإرباك واشنطن وقسد في حربهما المتواصلة على داعش، وضرب استقرار المنطقة النسبيّ، فقد جرّبت إيران هذه الوصفة في العراق حين اعتمدت على مركّب: الفوضى، واختلال دور العشائر وانقساماتها، وهشاشة الدولة، وتنامي دور الجماعات الجهادية.
يظهر إلى جانب التسخين الإعلامي وتسعير الاضطراب في دير الزور، أن هناك رغبة محمومة للأطراف الثلاثة، النظام وإيران وتركيا، في تصدير ما يحدث بأنه مشكلة كردية عربية، رغم معرفتهم أنه لا مطامح كردية بالمطلق في حكم مناطق ينعدم فيها الوجود الكردي أو يكاد، وواقعياً فإن المخاوف الجدية إنما هي متصلة بطموحات طهران وأنقرة بوصفهما صاحبتي مشاريع إمبريالية قائمة على التوسّع الخشن، والغالب على الظن أن هذا الترويج الإعلامي غايته إضعاف قسد في امتدادها العربيّ حيث تضم هذه القوات في صفوفها مقاتلين عرب أضعاف عدد مقاتليها الكرد، فضلاً عن إشعال حرب قومية في الجزيرة السورية بعد أن جرّبت ذات القوى حروباً طائفية أفضت إلى مقتل عشرات الآلاف من السوريين دون أن يكون حصيلة كل ذلك سوى تدمير سوريا وتحطيم بنيتها الاجتماعية.
لكن ثمة تساؤل حول الصمت الأمريكي تجاه ما يحدث، وقد تقود الإجابة إلى حيث قررت قسد النأي بنفسها عن مجرى صراع أوسع بين إيران والولايات المتحدة شرقي سوريا، ذلك أن واشنطن وفق ما يشاع من تحليلات ومعطيات تسعى إلى إطباق السيطرة على الحدود السورية العراقية إنطلاقاً من آخر النقاط التي تسيطر عليها قسد في دير الزور، غير أن الأخيرة لا ترى أيّ جدوى للمضي في ما قد تخطط له واشنطن وأنه يتخطّى موضوعة محاربة داعش، وبالتالي فإن استدراج النظام وإيران إلى مناطق سيطرة قسد قد يكون مقدّمة لأن تفارق الأخيرة سياسة النأي بالنفس خاصة وأنها تعتمد استراتيجية دفاعية على ما تقوله دائماً، لاسيما أن ما أشيع عن رغبة أميركا في تشكيل قوّات من أبناء القبائل العربية هو محض خيال بالنظر إلى الفشل المريع لواشنطن في المسعى ذاته داخل العراق بعيد الإطاحة بنظام صدام حسين، ولعلها لا تريد تكرار أخطائها تلك، فوق أن مثل هذه المغامرة الأمريكية تحتاج إلى وقت طويل في ظل تسارع عملية مراكمة إيران والولايات المتحدة للأسلحة في شرقي سوريا.
بكلمات أكثر تجريداً، تحوّلت مناطق شرقي سوريا إلى صندوق بريد تسعى إيران من خلاله إلى توجيه رسائل لواشنطن عبر إثارة الفوضى واستخدام شبكاتها الاجتماعية/العشائرية واستعراض قوّتها ووكلائها على الأرض لثنيها عن مشروع إغلاق الحدود السورية العراقية في وجهها. يمكن النظر إلى التنافس الإيراني الأمريكي بأنه يتجاوز ما يقال في الإعلام، والتعبئة التي تجري في مواجهة قسد؛ فالغاية من كل ما يجري هو أمر آخر يعرفه المتنافسون وبالتالي لا مصلحة لسكان المنطقة وعشائرها في الانخراط في صراعات غلبة وسيطرة لا تخدم الاستقرار والأمان في مجتمعات فتكت بها الحروب والإرهاب والفقر.
خلال العقد الماضي طوّرت كل المناطق السورية سياساتها المحليّة القائمة على المفاضلة بين الخيارات المتاحة، ولئن كانت دير الزور قد اختبرت معنى الفوضى وما استتبع ذلك من سيطرة داعش عليها، فإن الغالب على الظن أن الغالبية العظمىى من سكانها وعشائرها ووجهائها سيدعون إلى التهدئة والابتعاد عن مدار صراعات الدول على أرضهم.