عن “خيانة المثقفين” لما يجري في سوريا

في الأيام التالية لزلزال السادس من شباط الماضي في سوريا حصلت مشادات كلامية بين عدد من الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي، وبعض المثقفين ممن يصنّفون مجتمعياً من “الكبار” أو “الصف الأول” تبعاً ﻹنتاجهم الثقافي أو المعرفي، كان سببها الأساسي أن الناشطين استخدموا صفحاتهم على المنصات للوصول الى أشخاص متضررين من الزلزال وآخرين عارضين لخدمات إغاثية مختلفة، وعملوا على تأمين ما يقدرون عليه من مساعدات ضمن دوائرهم، واعتراض المثقفين، وغالبيتهم من قدامى اليساريين، انصب على أنّ هذه مهمة الدولة لا مهمة الناشطين، وأنّ هذا العمل أقرب إلى أن يكون “لعب أولاد” منه إلى العمل اﻹغاثي، ورغم أنّ هذا الجدل لم يؤثر على عمل الناشطين إلا أنه كان مؤشراً على طرق تعاطي بعض المثقفين مع الحدث وكأنه حدث خارجي لا علاقة لهم به، وعليه تابعوا أنشطتهم الثقافية ونقاشهم البعيد عن الكارثة ونشروا صورهم وكأنهم يعيدون كلمات المسيح في سياق مختلف: “إنّ مملكتي لا تنتمي لهذا العالم”.

هذه المفارقة تتكرر هذه الأيام، وعلى كافة المستويات الثقافية والمعرفية، فيما يتعلق بالأوضاع الحالية في البلاد الواقفة على حافة بركان قد ينفجر للمرة الثانية كما انفجر في آذار/مارس عام 2011، إذ تتيح مراقبة منصات التواصل والمواقع الإلكترونية وبقية ما بقي من صحف ورقية، ملاحظة “الطناش” المتعمّد في إبداء هؤلاء المثقفين أية مواقف، ولو على سبيل المجاملة، تجاه هذه الأحوال التي وصلت أشواطاً متقدمة في استنفارها لكل الطبقات الاجتماعية أو الطوائف والقوميات.

في تفسير هذا العزوف يحضر هنا سؤال قديم – جديد: من هم هؤلاء المثقفين والمثقفات الذين نتحدث عنهم ونعطيهم هذه الأهمية، ولماذا مطلوب منهم إبداء الرأي العلني واتخاذ الموقف الواضح دوناً عن فاعلين آخرين قد يكون لموقفهم وقع أشدّ من أصحابنا؟ خاصة في وقت استطاعت فيه الحداثة والعولمة ومشتقاتها من تقنيات، تكسيرَ الصورة المعتادة للمثقف الذي كان في وقت ليس بعيداً علامة فارقة في مجتمعه، في حضوره ودوره؟

نقول “علامة فارقة” وندرك أنّ الآراء والتصورات النظرية حول مفهوم المثقف هو موضع جدل لم ينتهِ بعد، وأنّ المفهوم نفسه متداخل مع مفاهيم أخرى، ففي الإنكليزية على حد قول إدوارد سعيد: “تستخدم كلمات مرادفة للمثقف مثل المتعلّم”، وهذا يحدث في لغات كثيرة ومنها العربية، ويستخدم الناس عندنا الكلمتين بالتبادل، ولكن على مستوى معرفي وإدراكي أعلى فإنّ الأمر ليس هكذا، فالمثقف “يحمل صفات ثقافية وعقلانية مميزة، تؤهله للنفاذ إلى المجتمع، والتأثير فيه بفضل المنجزات القيمية الكبرى،” كما يذهب عالم الاجتماع “ماكس فيبر”، وهو ما فهمه المفكّر اﻹيطالي “أنطونيو غرامشي” جيداً حين خاطب “المثقفين العضويين” مؤكداً أنّ “تحويل البنى السياسية والاجتما – تاريخية في أي عهد بعينه يستوجب أن يبتدئ هذا العهد بتحول قيمي ضخم من الداخل”.

إذاً هناك كائن لنقل إنه متميز “وُهِبَ ملكة عقلية” حسب إدوارد سعيد مرة ثانية، واعٍ لدور الأفكار في تغيير التاريخ، على قناعة بأنّ أي نوع من الأعمال الفكرية أو الثقافية أو المعرفية، يمكن أن يكون مقدمة ﻷشكال مختلفة من العمل السياسي، وربما لديه “طموح سياسي، للوصول إلى مراكز صنع القرار السياسي، أو من خلال دوره المحوري الحاسم في توجيه المجتمع عن طريق التأثير على القرارات السياسية الهامة التي تؤثر في المجتمع ككل” مستعيدين هنا كلام عالم الاجتماع الأميركي “إدوارد شيلز”.

ولأن هذه الصورة المثالية غير متوفرة في مجتمعات تعاني من كل شيء في كل شيء، وفي زمن التفاهة المطلقة، فإننا نتراجع خطوات إلى الوراء ونسأل عن “موقف” أو “كلمة حق أمام سلطان جائر” صادرة عن “مثقف” ولو من خلف “شاشة” دون التقليل أبداً من كون “العالم شاشة”، هل نذكّر هنا “بتحولات” الكبير “أدونيس” من المأساة السورية واحتفائه بجائزة “هوميروس” في تركيا في وقت كانت فيه تقصف مواقع داخل سوريّا وتحتل مناطق شمال البلاد تبلغ مساحتها مساحة لبنان؟ أو لنذهب إلى الحالة المقابلة: لم نسمع طيلة العشر سنوات الماضية من عمر الكارثة السورية كلمة واحدة بحق الضحايا الكثر من السوريين سواء كانوا ضحايا النظام أم المعارضة أم أية قوة أمر واقع؟ هل تكفي حجة المنفى لكي نصمت؟ و “لماذا لا يتصدى المثقفون للشر الذي ملأ السياسيون العالم به؟:

هل هذا المثقف المرجو شخصية خيالية أم واقعية؟ لنهبط درجة أدنى، ألم تكن المجازر التي شهدتها البلاد تستحق موقفاً واضحاً أو وقفة تضامنية ولو فيسبوكية مع الناس من قبل هؤلاء؟ حسناً، لقد تجاهل صاحب “المقدمة” و”مؤسس علم الاجتماع العربي”، ابن خلدون، مأساة سكان دمشق ومجازرها إبان الغزو المغولي ولم ينضم إلى المقاومة.

إنّ اتخاذ الموقف ليس اتخاذ جانب من الحقيقة، بل هو اعتراف بأنّ هناك حقيقة لا يمكن نكرانها أو اللف والدوران حولها رغم اتساع أسباب التقية السياسية أو الثقافية، خاصة المفهوم السيئ للحقيقة وميوعتها من لحظة ادّعاء فوكو بأنه: “ليس هناك حقيقة شاملة”، ومن تلاه من مدارس فكرية وفلسفية عالمية، وهو الأثر الذي حوّل الثقافة المعاصرة إلى اعتبار الحقيقة “وجهة نظر تتضمن آراء مختلفة تمثل حقائق متعددة”.

من المثير للانتباه أن هذا الطناش الذي أبداه طيف واسع من المثقفين، قابله سخرية واسعة ـ مبررة حقيقةً من الناس لهم، في فعل ورد فعل يوضح خيبة الأمل منهم من جانب، ونجاح السلطة في تحويل صورة المثقف إلى صورة الشخص المهزوم والبراغماتي والعملي الذي يعمل مع مراكز أبحاث يقف ضدها في حديثه اليومي وبالتالي لا يعدّ عمله ولا موقفه مهمّين، من جانب آخر.

في زمن آخر، فإن قوة الانتقادات الموجهة للمثقفين بحد ذاتها كانت تمثل اعترافاً بقوة الأفكار التي يحملونها، وإلى اﻵن، ما تزال أفكار “عبد العزيز الخيّر” حاضرة في الذاكرة السورية كمثال على قوة الأفكار، ومن مختصراتها التي يستعيدها السوريون اليوم على أهبة نهوض جديد: “متى تسلّحت الثورة، تطيّفت” وإنه لقول الحقيقة.