في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1979، احتل طلاب إيرانيون السفارة الأميركية في طهران وكانوا يسمون أنفسهم: “أتباع خط الإمام”، وقاموا باحتجاز اثنين وخمسين دبلوماسياً ومواطناً أميركياً واحتلوا أرضاً أميركية هي مبنى السفارة. لم تحرك السلطات الإيرانية ساكناً ولم تقم بحماية السفارة، وكان من الواضح أنهم يتمتعون بحمايتها. كان اقتحام السفارة تمريغاً لصورة الولايات المتحدة في الأرض من قبل السلطات الإيرانية وأضيف إليه معاملة قاسية عاشها الرهائن الأميركان طوال أربعمئة وأربعة وأربعين يوماً.
حاول الرئيس الأميركي جيمي كارتر، الرد بقسوة على الإيرانيين، لكنه فشل بعد تحطّم طائرات تحمل جنوداً من الكومندوس أتت لتحرير الرهائن. كان من فاز عليه في الانتخابات الرئاسية في الثلاثاء الأول من شهر تشرين الثاني 1980 كان مشهوراً بتصلبه اليميني ضد السوفيات، وهو رونالد ريغان، ولكنه مع الخميني اختار خطاً آخر غير الذي اتبعه مع ليونيد بريجنيف، حيث دخل في مفاوضات سرية مع الإيرانيين ومن ثم تم إطلاق سراح الرهائن بعد دقائق من استلامه منصبه في يوم 20 كانون الثاني/يناير 1981.
خلال ست سنوات حتى خريف 1986 تدفقت أسلحة أميركية الصنع على إيران عبر إسرائيل تعادل قيمتها اثنا عشر مليار دولار، وكان هذا مخالفاً للقانون الأميركي بحكم تصنيف الكونغرس الأميركي لإيران كدولة راعية للإرهاب، ومتناقضاً مع واقعة أنه حصل في وقت كانت منظمات لبنانية موالية لإيران تحتجز رهائن أميركان وأوروبيين غربيين في بيروت.
في شهر كانون الأول/ديسمبر 1982 قامت المخابرات البريطانية بتسريب معلومات للسلطات الإيرانية عن علاقة لحزب توده الشيوعي الإيراني بالأجهزة السوفياتية مما قاد إلى حملة اعتقالات لكوادر الحزب رغم أن الشيوعيين الإيرانيين قد وقفوا صيف 1981 مع الخميني في صدامه مع منظمة مجاهدي خلق وحليفها أبو الحسن بني صدر الرئيس الإيراني حتى ذلك الوقت.
حصل هذا من واشنطن وتل أبيب ولندن في وقت كان الخميني يقول عن أميركا إنها “الشيطان الأكبر” وفي وقت كان يدعو إلى “إبادة إسرائيل”. الكثيرون يعزون هذا كله إلى الهم السوفياتي عند ريغان والبريطانيين ومحاولتهما كسب الخميني ضد موسكو، وإلى خوف إسرائيل من أن ينتصر العراق في الحرب مع إيران، وأنها من خلال تمريرها الأسلحة الأميركية من المخزون الإسرائيلي إلى طهران بموافقة واشنطن كانت تريد تحقيق انشغال عدوين لها ببعضهما البعض من دون أن ينتصر أحدهما على الآخر.
ولكن بعد هزيمة السوفيات في الحرب الباردة 1947-1989 استمرت إيران في أخذ راحتها ضد معارضيها على أراضي الغرب الأوروبي، وسط سكوت عملي من واشنطن ومن العواصم الأوروبية الغربية. ففي عام 1989 تم اغتيال الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني الدكتور عبد الرحمن قاسملو في فيينا من قبل أفراد إيرانيين قدموا أنفسهم أنهم وفد رسمي إيراني جاء لمفاوضته ثم التجأوا للسفارة الإيرانية في النمسا ثم غادروا من مطار فيينا وأحدهم عولج في المشفى من جراح أصيب بها قبل أن يلجأ للسفارة ، وفي عام 1992 تم اغتيال الدكتور صادق شرفكندي الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في داخل مقهى ميكونوس ببرلين، والمدعي العام في المحكمة التي أقيمت لمنفذي الاغتيال ومنهم لبنانيون وإيرانيون أشار إلى أن من أعطى الأوامر بالعملية هو وزير الاستخبارات الإيراني علي فلاحيان، وعندما خرج المتهمون بالعملية بعد سنوات من السجن استقبلتهم طهران كأبطال، وهو أيضاً ما جرى عام 1990 مع أنيس النقاش الذي قام بمحاولة اغتيال فاشلة في باريس عام 1980 لرئيس الوزراء الإيراني السابق زمن الشاه، شاهبور بختيار، وتم الإفراج عنه في صفقة تبادل مقابل رهائن فرنسيين في لبنان. مؤخراً في أيار/مايو 2023 أفرجت السلطات البلجيكية عن دبلوماسي إيراني اسمه أسد الله أسدي، وكان قد اعتقل بألمانيا عام 2018 بعد أن ضبطت سيارة ببلجيكا تحمل متفجرات كان يستقلها شخصان اعترفا عليه بأنه قد أمرهما بتفجيرها في تجمع جماهيري كان سيقام للمعارضة الإيرانية بباريس، وقد حكم عليه في المحكمة البلجيكية بالسجن عشرين عاماً، لكنه حصل على الإفراج مقابل إطلاق سراح عامل بلجيكي مقيم بإيران يعمل في منظمة خيرية اعتقلته السلطات الإيرانية واتهمته بالتجسس وحكمت عليه بالسجن.
يمكن، إذا رجعنا للوراء، أن نقيس أن الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ ريغان وحتى بايدن كلها مارست خطب ود إيران، ماعدا دونالد ترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، وبعضها مثل إدارة جورج بوش الابن كافأتها بإعطائها عراق ما بعد صدام حسين وهي كانت الراعية لمؤتمر الدوحة الذي كرًس سيطرة حزب الله على لبنان بعد عملية 7 أيار/مايو 2008 في بيروت، وقد كان وصول ميشال عون للرئاسة اللبنانية عام 2016 ناتجاً عن اتفاق أميركي- إيراني في العام التالي لتوقيع الاتفاق حول الملف النووي الإيراني. وهناك مؤشرات كثيرة على أن الاتفاق النووي كان عام 2015 هو مقايضة تفكك فيها إيران برنامجها النووي مقابل إغماض واشنطن باراك أوباما عينيها عن التمدد الإيراني في إقليم الشرق الأوسط، وسط لامبالاة البيت الأبيض تجاه غيظ واحتجاجات الحلفاء في تل أبيب والرياض. ومن المفارقات أن مفاوضات فيينا التي أراد جو بايدن إحياء الاتفاق النووي من جديد معها قد أماتتها إيران بعد سنة وأربعة أشهر من بدئها من خلال تجاهلها للعرض الذي قدمه الوسيط الأوروبي جوزيب بوريل في شهر آب/أغسطس 2022، ورغم اتجاه طهران لتزويد موسكو بمسيرات (شاهد) الإيرانية الصنع التي يستخدمها الروس في حربهم على أوكرانيا، فقد قامت واشنطن في الاستمرار بخطب ودها من خلال صفقة تبادل السجناء الأخيرة التي تضمنت الافراج عن ودائع إيرانية مجمدة في العراق وكوريا الجنوبية، ولعل واشنطن تريد على ما يبدو إغراء طهران من خلال ذلك للعودة إلى مفاوضات إحياء الاتفاق النووي.
هنا، لم يسبق لعدو أن عومل بهذا “الدلال” في التاريخ الأميركي والأوروبي الغربي، وفي حالات عديدة كانت واشنطن والعواصم الأوروبية الغربية بالغة الخشونة والقساوة مع حلفاءٍ في لحظات سياسية معينة، مثلما جرى مع السعودية في قضية خاشقجي عام 2018 عندما صُلبت الرياض لأشهر على حائط الإعلام الأميركي والأوروبي الغربي، وتتالى ضدها مسؤولون رسميون في تصريحات قاسية، وكثيراً ما تعرض الرئيس المصري السابق حسني مبارك لذلك السلوك الأميركي القاسي ضده رغم خدماته المديدة لواشنطن، وحتى جيمي كارتر لم يوفر الحليف شاه إيران في عام1977عندما أثيرت ضده “مسألة حقوق الإنسان”، وهو ما جرى أيضاً ضد حلفاء واشنطن زمن كارتر في أندونيسيا أحمد سوهارتو، وفي الفيلبين فرديناند ماركوس. وعندما تعرض “الحليف” للضرب من “العدو”، كما جرى في أيلول/سبتمبر2019 لما ضربت منشآت آرامكو النفطية السعودية بصواريخ من صنع إيراني أطلقها الحوثيون الموالون لإيران من اليمن، وقفت واشنطن متفرجة وربما كانت شامتة، رغم أن الإنتاج النفطي السعودي بنتيجة الضربة قد انخفض إلى النصف لأشهر أربعة لاحقة.
والسؤال: ألا يجب البحث عن سبب أو أسباب هذا العشق الأميركي (والأوروبي الغربي)لإيران؟