جبل العرب: تفضل على “الميسور” يا وطن!

جمال الشوفي

ميسور السوريون، ومنهم أبناء جبل العرب سكان محافظة السويداء: الكرامة والحق والمحبة والسلام. وهي ذات الكلمات التي قالها شيخ عقلها حمود الحناوي من على ضريح سلطان الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، أمام جمهور المعتصمين والمتظاهرين: “نحن لا نجوع من قلة الأكل بل نجوع للحق والكرامة. نحن دعاة سلام ومحبة وكرامة”.

والميسور ليست مجرد كلمة يمكن التعرّف عليها من مشتقاتها اللغوية. فما تيسر، هو ما جادت به المنازل والبيوت، وصاحبها  بما يملك أن يقدمه طواعية وكرامة حتى وإن كان لا يملك غيره. أما الجملة عنوان المقالة، فقد قالها بحسرة وألم والد أحد أبناء الجبل الذي قضى ابنه العسكري في الجيش ضحية الحرب التي فتحتها سلطة النظام على السوريين منذ 2011 أمام مسؤولي السلطة المعزّين تزلفاً. ليقول لهم: “ابني كل ما أملك لأقدمه للوطن، لكن سادة الوطن التهموه”، والمعروف أن أبناء السويداء بدأوا بسحب أبنائهم من الجيش منذ عام 2013 بعد تيقنهم من كذب دعاية السلطة بالمؤامرة الكونية على سوريا، حتى بلغ عدد من سُحب من الجيش عشرات الآلاف.

في هذه الآونة تستعيد سوريا شيئاً من روحها، وتنبض شوارعها وساحاتها على إيقاعات الحرية والكرامة، التي يبثها شباب وشابات السويداء كما كانت في ربيع عام 2011 حين كانت تملأ كل ساحات المدن السورية. واليوم، يستعيد شعبها زهوته متمايلاً بعد سنوات من القحط والتصحر السياسي. فترتفع الأصوات من جبل العرب لتجاوبها سهول حوران وكل منطقة سورية تهتف معها: سوريا لكل السوريين. سوريا الهوية التي حاولت سياسات الدول الإقليمية والدولي، وفي مقدمتها الاحتلال الروسي والميليشيات الطائفية الإيرانية المتطرفة مضافةً إلى سلطة النظام الأمنية والعسكرية المستبدة، طمسها في السنوات الماضية، عبر التهجير الجماعي والقتل اليومي والاعتقال والتغييب القسري، وعبر الإفقار و”التطفيش”.

منذ أسبوع وحتى اللحظة، لم تهدأ ساحات السويداء عن التظاهر والدعوة لعصيان مدني واسع، بدأ يزداد ويكبر حتى بلغ معظم قرى وبلدات المحافظة. يردد المتظاهرون: فقط نصف مليون ونيّف (وهو مجموع سكان السويداء وحدها)، في إشارة منهم لما أدلى به رئيس النظام على القنوات الفضائية وقوله أن عدد من طالب بتنحيه عن السلطة هم فقط “مئة ألف ونيف”!

تظاهرات السويداء التي لم تتوقف طوال السنوات الماضية مقتصرة على شبابها المدني ونخبتها السياسية، باتت اليوم تعم كامل شرائحها الشعبية والأهلية، متناغمة مع خطابات وبيانات رجال دينها المعروفين بمشايخ عقل الطائفة. فكان لموقف الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقلها الروحي الأعلى، أثر بالغ في إيصال نبض الشارع في قوله: “بلغ السيل الزبى، فمن لا يستطيع أن يقوم بمهام المكان الذي فيه فليتركه لغيره ولا يعبث بقيمته.” في إشارة واضحة لرأس السلطة ورموز فسادها العام. موصياً المتظاهرين بالحفاظ على مؤسسات الدولة التي هي ملك الشعب، ومنع كل من تسوّل له من “الانجاس” العبث فيها، كما حدث حين تم حرق بناء المحافظة أثناء اعتصاماتها السلمية نهاية العام الماضي وبدايات الحالي، ليلصقوا التهمة بالمعارضين، فيما كانت العملية وقتذاك مدبرة للتخلص من ملفات فساد المسؤولين الضخمة، حسب قوله.

بيانات شيخي العقل أتت كتعبير واضح عن الانتماء الوطني لسوريا. فإن كانت السويداء بحاضنتها الشعبية قد وقفت على الحياد الإيجابي من مجريات الحدث السوري العسكري الدامي، وحاول رجال دينها الإبقاء على مهمتهم الدينية وحسب، خلال عمر الأزمة، فهم اليوم في مقدمة الحدث السوري مجدداً. وإذ يحاول البعض تشويه هذا الحراك الشعبي الواسع معتبرين أن دور رجال الدين فيه دور طائفي يسعى لإنشاء “دولة درزية” أو حكم ذاتي تدلل عليه الراية الدينية والأهلية الظاهرة في الساحات بكثافة. لكن، ما يجب معرفته في هذا السياق: أن راية الموحدين الدروز ليست سوى تعبير وجدانيّ وأهليّ على تضامنهم وتماسكهم، فهي ليست راية سياسية ولا تستخدم إلّا في أوقات تهديدهم في وجودهم، كما حصل في زمن حكم العثمانيين، وإبان حملة إبراهيم ابن محمد علي باشا والي مصر على بلاد الشام، وزمن الاحتلال الفرنسي. خلاف ذلك مارس أبناء هذه المنطقة مع رجالها الدينيين دورهم في الحياة المدنية والسياسية في سلام مع الحكومات السورية المتعاقبة ملتزمين بدستورها وقانونها العام، صابرين على جور المستبدين لا يرفعون السلاح بوجه أي سلطة، إلا حين يُعتدى عليهم. كما أن شعارات  ومطالب المتظاهرين، ومن خلفهم شيخي العقل، هي سياسية تخصّ السوريين عامة سواء تلك التي تنادي بالتغيير السياسي وتنفيذ القرار 2254، أو تلك التي تتحدّث عن العدالة والمساواة بين السوريين جميعاً أمام القانون. أما التهديد الذي يجب التنبه له هو الترويج لتكرار افتعال هجمات داعش، أو تحريك أدوات السلطة الأمنية عبر افتعال الأزمات والاختناقات الحياتية والمعيشية، أو إحداث التفجيرات والأعمال العنفية في ساحة المحافظة، وهذا ما يُحذّر منه أبناء السويداء؛ فالفاعل بات مكشوفاً ومعروفاً لكل السوريين ولأبناء السويداء جميعاً.

إن ميسور السويداء اليوم الذي يدعون كل السوريين عليه يمكن تكثيفه بالتالي:

-الدعوة للتضامن السوري العام، ونبذ التفرقة التي ولدتها الأيديولوجيات السياسية والمشاريع السياسية الدولية والإقليمية في التقسيم والتطييف.

-التنوّع السوري وغناه الأهلي والثقافي عنوان رئيسي للمواطنة حين يصبحون متساوين في الحقوق والحريات كمواطنين في دولة، وهو رافعة وطنية محورية في تحقيق دولة المواطنة التي تساوي بين جميع السوريين في الحقوق والحريات، وتقر بالاختلاف والتنوع واحترام الآخر في ثقافته وفكره ومعتقده الديني.

-الحل السياسي السوري المستند للقرار 2254، وخلاصة المبادرة العربية في تنفيذ ذلك هو مقدمة تحقيق الأهداف أعلاه. وعلى الجامعة العربية والأمم المتحدة أن تسعى لتحقيقه اليوم دون مماطلة أو مواربة.

-الدستور والعلم هي مواضيع توافق سوري عام ينتج عن مؤتمر تأسيسي يمثل كل السوريين ويأتي بعد التغيير السياسي والحل السوري المفترض وإخراج الفصائل والقوات العسكرية الأجنبية من كامل الأراضي السورية.

ميسور السوريين للعالم والعرب اليوم الملخص في النقاط أعلاه، هو فرصة نامية وطنياً تتجاوب مع كل دعاة الحرية والكرامة والعيش الكريم والاستقرار والسلام في المنطقة. وهذه الفرصة هي الأساس لميثاق وطني سوري يمكن تسخير كل إمكانيات السوريين المادية والمعنوية، السياسية والفكرية والمدنية لأجله، كما كانت خلاصة الميثاق الوطني للاعتصام الستيني عام 1936 الذي أفضى لمعاهدة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي. وها قد طرق أبناء السويداء أبوابه مجدداً.