الترحيل القسري.. كيف أبقت سياسات أنقرة السوريين عالقين على الحدود؟

بعد الاجتياح التركي لمناطق عفرين عام 2018 وسري كانيه وتل أبيض عام 2019, بدأت السلطات التركية بترحيل  اللاجئين السوريين قسراً وبشكل ممنهج وفق خطة وإجراءات تم العمل بها لإحداث تغير ديموغرافي في المناطق الثلاث وبهدف التخلص من اللاجئين السوريين المتواجدين على أراضيها, وفي العديد من المناسبات أكدت السلطات التركية بأنها سترسلهم إلى بلادهم ووضعت عدداً من الخطط تحت مسمى “العودة الطوعية” التي يجبر فيها اللاجئون على توقيع استمارتها تحت شروط وظروف لاإنسانية كالاعتقال والتعنيف والتهديد بالسلاح, ويؤكد على ذلك الشهادات الواردة في التقرير.

منذ مطلع حزيران/ يونيو الماضي، ارتفعت وتيرة الترحيل القسري من تركيا إلى سوريا، استهدفت من تصفهم بـ”اللاجئين غير الشرعيين” و”مخالفي القوانين” على رأسهم السوريين، معظم الأشخاص الذين تم ترحيلهم امتلكوا بطاقة الحماية المؤقتة “كملك” وتم حجزهم واعتقالهم أثناء ذهابهم للعمل أو تواجدهم في أحد الأحياء وبدون سبب، ولكن أجبروا على توقيع وثائق العودة الطوعية، ليرحلوا قسراً إلى سوريا التي لاتزال غير آمنة وتعاني من تبعات الحرب والفلتان الأمني ولازالت تحت وطأة صراع مسلح دامٍ, والذي يعتبر خرقاً واضحاً للقانون الدولي الإنساني وللعديد من الاتفاقيات الدولية.

وبغرض إعداد التقرير تواصل قسم الرصد والتوثيق مع 16 شخصاً عبر الإنترنت, ويستند التقرير الصادر عن قسم الرصد والتوثيق في وكالة نورث برس على شهادات لـ 5 أشخاص (سوريين وعراقيين) تم ترحيلهم قسراً إلى سوريا, بالإضافة إلى شهادات لنشطاء وحقوقيين على دراية بالانتهاكات التي يتعرض لها اللاجئون السوريون في تركيا, تكشف عن معلومات تصف ظروف احتجاز اللاجئين وطرق ترحيلهم  نحو الشمال السوري عبر معابر تل أبيض، باب السلامة، معبر باب الهوى.

جميع الأسماء المذكورة بالتقرير هي أسماء مستعارة لحماية الأشخاص والحفاظ على سلامتهم.

توزلا قفص للترحيل القسري

“أوقفتني السلطات التركية في محطة الميترو أثناء ذهابي للعمل وطلبوا مني الثبوتيات, قدمت لهم الأوراق الثبوتية اللازمة من بطاقة عمل وكيملك, فطلبوا مني مرافقتهم لتحديث البيانات وأن العملية لا تستغرق سوى دقائق، لأتفاجأ بعد نحو ربع ساعة أنه تم تحويلي من المخفر إلى مركز توزلا في اسطنبول المخصص للترحيل”، يقول سعيد الأحمد وهو شاب عشريني من مدينة دير الزور متزوج ويعمل في الخياطة، وكان يقيم حي اسنيورت الواقع في مدينة اسطنبول قبل أن يتم ترحيله إلى تل أبيض.

احتجز الشاب مع عشرات الأشخاص لمدة أسبوعين في مركز توزلا وحاول معهم أن يحتجو على الاحتجاز وطريقة الترحيل غير القانونية وفي كل محاولة مع السلطات قوبلوا بكم هائل من الشتائم العنصرية والتعنيف ووصف الشاب ظروف الاحتجاز بـ”اللاإنسانية”، “تعرضنا للإهانات والضرب والتجويع وحتى التواصل مع عائلاتنا وكأنا مجرمين”.

وأكمل حديثه, “بعد أسبوعين من جحيم توزلا نقلنا بعد ربط أيدينا بالأشرطة البلاستيكية إلى منطقة أورفا، إلى مركز ترحيل لا يقل سوءاً عن مركز توزلا، وأجبرنا على التوقيع على أوراق الترحيل دون مراعاة بقاء عائلاتنا هناك, كل ذلك تم إنهاؤه بلحظات وبصورة لا تمت للإنسانية بصلة، وبأسلوب مكلل بالعنصرية”.

خيِّر المرحلون بين معبر باب الهوى ومعبر تل أبيض, وبعد الاختيار تم إجبارهم على معبر تل أبيض بالرغم من أن معظم الأشخاص الذين كانوا مع الشاب ينحدرون من مناطق شمال غربي سوريا, وتم ترحيلهم في 10 تموز/يوليو, ليحتجز الشاب بعدها مع نحو 60 شخصاً في مركز إيواء لا يتسع لأكثر من 30 شخصاً.

يقول ماجد الوليد أحد الشبان الذين كانوا مع سعيد والمنحدر من مدينة حلب, “منذ ترحيلنا وأنا أعيش في دوامة من العقبات والقلق، من جهة على مصير زوجتي وأطفالي اللذين يعيشون لوحدهم الآن في تركيا بلا معيل، ومن جهة أخرى الابتزاز الذي تعرضت له من قبل الفصائل  أثناء فترة التحقيق في تل أبيض والتي دامت لأربعة أيام, ليقرروا أخيراً أنه لن يتم الإفراج عني حتى دفع مبلغ من المال”.

تواصل الشاب مع أخيه في أوروبا الذي أرسل المال, لكنه لا يعلم إلى أين سيذهب وما الذي سيفعله حيال عائلته.

أثناء العمل على التقرير استطاع القسم الوصول لمعلومات تؤكد بأن عدداً من الأشخاص الذين يتم ترحيلهم يحتجزون في سجون “الجيش الوطني” ويبتزون عائلاتهم بتلفيق تهم واهية في حال لم يدفعوا مبالغ مالية طائلة كفدية.

عودة محاصرة بابتزازٍ مادي

“أخي جلال تم نقله إلى تل أبيض وأنا إلى معبر باب السلامة لأنني دفعت للضابط التركي مبلغ 1200 دولار كان بحوزتي حين الترحيل، ولولا ذلك لتم رميي إلى جانب أخي في تل أبيض” يقول حازم الأكرم (42 عاماً) من مدينة حلب تم ترحيله عبر معبر باب السلامة إلى مدينة أعزاز، بينما جلال الأكرم تم ترحيله إلى معبر تل أبيض بحجة أنه ليس من سكان المنطقة.

اعتقل الشاب مع آخرين كانوا برفقته بعد الترحيل مرتين من قبل الشرطة المدنية, وتعرض الجميع للابتزاز إذ تم تخيرهم بين دفع مبالغ مالية تبدأ من ألف دولار أو أنه سيتم اتهامهم بتهم باطلة. اضطر الشاب لدفع مبلغ 2500 دولار كانت قد أرسلته له زوجته ليعود إلى تركيا عن طريق التهريب.

ولا يختلف الوضع بالنسبة لـ سلمى محمد، العشرينية المنحدرة من مدينة الحسكة، التي تم إيقافها من قبل السلطات التركية أثناء توجهها إلى صيدلية في منطقة سكنها منطقة اكسا سراي لشراء الأدوية لطفلها ذو الأربعة أعوام والذي كان برفقتها, دون أن تكون حاملة لثبوتيات معها, ليتم نقلها بعد ساعات لمركز توزلا بعد ساعات من توقيفها بحجة أنها لا تملك ثبوتيات.

تقول سلمى: “لا فرق بين امرأة ورجل الجميع يتم ربط أيديهم بقيود بلاستيكية, ويتعرضون للتجويع لساعات طويلة, والضرب بعصى كهربائية ناهيك عن الإهانات العنصرية”.

وتضيف العشرينية: “منذ وصولنا إلى تل أبيض لم نتحرك خارج مركز الإيواء لأسباب أمنية بحسب وصف الفصائل الموالية لتركيا، وكانت التهمة التي اتهموني بها هي انتماء إخوتي لصفوف قوات سوريا الديمقراطية في الحسكة، ليتم على أساسها نقلي إلى مركز مكافحة الإرهاب للتحقيق الأمني ثلاث مرات،  تعرضت فيها للتعنيف اللفظي والجسدي والترهيب, عوضاً عن فصلي عن ابني لمدة أسبوع إلى أن أرسل زوجي مبلغ 4500دولار حينها أطلقوا سراحنا”.

خروقات فاضحة لحق اللجوء

يطال الترحيل القسري من تركيا لاجئين من جنسيات مختلفة أيضاً إذ يتم ترحيلهم أيضاً إلى سوريا منهم العراقيون والأفغانيون والمغربيون.

تقول فرح السامر (28 عاماً)، وهي عراقية تم ترحيلها من تركيا إلى مخيم كللي من معبر باب الهوى في 19 حزيران/يوليو الماضي دون علم زوجها, “تم توقيفي بحجة عدم قانونية أوراقي الثبوتية, بسبب صدور الكيملك الخاص بي من منطقة بورصا بينما أنا متواجدة في أنطاكيا بلا إذن سفر”.

ليسمح للشابة بالاتصال بزوجها أو أحد من عائلتها, تم نقلها مع عدد من اللاجئين السوريين إلى مركز ترحيل في أنطاكيا, وبحسب تقديرات الشابة أنه بلغ عدد المرحلين معها أكثر من 100 شخص بينهم 15 عراقي وعراقية تم ترحيل عدد منهم إلى مخيم كللي وآخرون إلى تل أبيض.

أشارت الشابة في حديثها أنه بعد الانتخابات التركية وفوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ازدادت وتيرة العنصرية, وتقول: “ليس همهم فقط ترحيلنا بحجة تخفيف التعداد السكاني للمهاجرين، إنهم يريدون تفريغ تركيا من كل اللاجئين, وهذا ما شاهدناه من خلال إجبارنا على التوقيع قسراً تحت التهديد بالاعتقال لأشهر”.

أرقام صادمة

بلغ عدد اللاجئين الذين تم ترحيلهم من تركيا منذ بداية العام أكثر من 21 ألف شخص بحسب إحصائيات من مسؤولين إداريين من معابر باب الهوى وباب السلام وتل أبيض, ففي آب/ أغسطس الجاري فقط رحلت السلطات التركية 11500 شخص وفي حزيران/ يونيو الماضي أكثر من 5000 شخص  بينهم على الأقل 74 عراقي.

وأوضح أحد المصادر أن عمليات الترحيل عبر معبر باب الهوى تتم من مناطق ولاية اسطنبول نحو مركز الاحتجاز والترحيل في أنطاكيا، بالتنسيق مع مكتب العلاقات الخارجية في حكومة الإنقاذ وبحضور جهاز الأمن العام, التابعين لهيئة تحرير الشام, وفي مناطق تل أبيض يتم تسليم المرحلين لفصائل “الجيش الوطني”.

من المنظور القانوني والحقوقي

يقول المعتصم الكيلاني وهو مختص في القانون الجنائي الدولي، في عمليات ترحيل السوريين إن “الاعتبار العام في القانون الدولي هو أن الإعادة القسرية دون مراعاة حقوقهم ووفقًا للإجراءات القانونية المنصوص عليها، تعتبر مخالفة للقانون الدولي، وهذه الممارسة انتهاك لحقوق الإنسان ومعايير اللاجئين”.

ويضيف “الكيلاني” المقيم في فرنسا لنورث برس: “معظم الاتفاقيات الدولية تحظر الإعادة القسرية للأشخاص إلى مناطق قد يتعرضون فيها للتعذيب أو المعاملة القاسية أو الاضطهاد”.

بدورها تقول الدكتورة فاتن رمضان رئيسة منظمة “بلا قيود” لنورث برس، إن “ظروف الاعتقال والاحتجاز والترحيل تشوبها الكثير من الاستفهامات القانونية، وذلك بحسب المئات من الشهادات الموثقة لضحايا تم اعتقالهم وترحيلهم بطرق غير قانونية، من خلال الإجبار والتعنيف والضرب، لإرغام المرحلين على توقيع أوراق العودة الطوعية”.

وأشارت “رمضان” أنه بالاستناد إلى شهادات المرحلين “يتبين وجود مخالفات واضحة للقانون التركي أولاً وقوانين حقوق الإنسان وحماية اللاجئين الأممية والدولية”.

وبالعودة إلى الاتفاقيات والمعاهدات التي تحظر الترحيل القسري للاجئين, فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بمادته 14 ينص على حق اللجوء وعدم ترحيل أي شخص إلى دولة يمكن أن يتعرض فيها لمعاملة لاإنسانية ومهينة, وحظرت بدورها اتفاقية جنيف لعام 1951 بمادتها 33 وبروتوكول 1967 ترحيل اللاجئين قسراً إلى مناطق قد تتعرض فيها حياتهم وحرياتهم للخطر, وبحسب البروتوكول يجب على تركيا منح الإقامة المؤقتة لطالبي اللجوء من دول كسوريا وأفغانستان والعراق.. بعكس مواطني الدول الأوروبية الذين يحق لهم الحصول على اللجوء وما ينبثق عنه من حق الحماية الكاملة في تركيا.

تجيز المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949 “السماح للدول المستضيفة بإجلاء الأشخاص المحميين مؤقتا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية”، “وهذا مالا ينطبق على تصرف الحكومة التركية بإعادة اللاجئين السوريين دون رضائهم ودون توافر موجب حيوي مزعزع للأمان التركي، بل تعتبر تركيا بلد ثالث آمن”، بحسب تصنيف وتوصيف الاتحاد الأوروبي ولا توجد أي حالة حرب داخلية أو خارجية في تركيا حاليا. 

كما توجب  المادة 49 من اتفاقية اللاجئين المذكورة آنفا “إعادة السكان المنقولين لأسباب عسكرية إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في القطاع المعني” وهكذا فإن أي إعادة للاجئين واللاجئات إلى سوريا ينبغي أن تكون مشروطة بالحل السياسي المتضمن على أقل تقدير تطبيقا فعالا وملموسا لبنود القرار الأممي 2245 والبدء بمرحلة انتقالية ومشاريع إعادة الإعمار بحيث تتوفر بيئة آمنة ومحايدة وحياة كريمة تتوافر فيها أبسط سبل العيش، فأي عودة طوعية مرهونة بتحقيق الاستقرار والسلام المستدام.