آرام .. ابتلعت أرضه أجزاء من جسده ليحمله قصف مسيَّرة للسّماء
نالين علي ـ القامشلي
يتجرع آراس إبراهيم (26 عاماً)، من أبناء مدينة القامشلي، شمال شرقي سوريا، بضع قطرات من الدّواء، تدخل جسده كما يدخل العلقم، بعد أنّ يشعر بوحدته القاتلة، وهو مستلقٍ هناك على ذلك الفراش الذي كان يجمعه هو وشقيقه الأكبر سوياً، ينظر يمنة وشمالاً بحثاً عن طيفٍ كان يؤنس وحدته، لم تبقَ منه سوى أصداء لأحاديث وضحكات، تتسلل إليه من ثنيات الذّاكرة، لتمنعه من النّسيان.
وكلما يستدير آراس يواجه بنظره تلك الثياب المعلقة في الخزانة، وبضعة كتب، تنتظر مالكها ليعود، يخيل إليه أن شقيقه “آرام” يناديه لينهض من مكانه ويلبسه بزته، ويشير له إلى ذراعيه اللتين قطعتا وقدمه المبتورة.
يقول آراس إبراهيم، لنورث برس، إنّه يعمل في فرن خاص بالمعجنات، وكان له أخٌ انضم إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، منذ عام 2011، بهدف الدّفاع عن منطقته.
ويشرح “إبراهيم”، أنه استيقظ في الثالث من آب/ أغسطس الجاري، دون أن يعلم ما يخفيه هذا اليوم في جعبته له، ومارس حياته بشكل روتيني “ذهبت إلى عملي وعدت في السّاعة الثالثة، وارتحت حوالي 4 ساعات، حتى عاد أخي إلى المنزل”.
وأثناء عرض آراس لصور أخيه وتقليبه فيها أمام الكاميرا، كان داخل إطار هاتفه شاب في مقتبل العمر، يبتسم في معظم الصور، فيستفيض الأخ بحديثه “إنه آرام، جاء إليّ في ذلك اليوم وأخبرني أنّ نخرج لنستمتع مع رفاقنا، كون اجتماعات الشّبان في الصّيف تكون مُعظمها مسائية، فوافقت”.
نكبة مفاجئة
ويذكر “إبراهيم” أن شقيقه أخذ سيارته المدنية، “جمعنا الشّبان، ووصل عددنا إلى ست أشخاص في السّيارة، وتوجهنا إلى طريق علي فرو قرب قرية هرم شيخو، الواصل بين عامودا والقامشلي”.
وفي لحظات يوضح العشريني: “فجأةً، شعرنا بضربة قوية، التفت السيارة واندلعت فيها النيران، لم نستوعب ما يحدث، رأيت أخي ميتاً أمام عيني، في لحظات رمينا أنفسنا خارج السّيارة، أو بالأحرى من لم تقتله الضربة الأولى خرج من السّيارة”.

ويكمل شرحه: “وبعدها شعرت بضربتين مُتتابعتين في نفس الدقيقة تقريباً، كنت أشعر بنزيف في جسدي، ومن ثم لم أعد أعي ما يحدث حولي”.
وعلى رائحة المشفى المشبعة بالأدوية والسَّيرومات، استيقظ آراس، بعد 4 ساعات ونصف من خضوعه لعملية جراحية، لم يكن حينها عقله يستوعب كل ما حدث، إلا أنّ الطّبيب أخبره أنّ طائرة مسيرة استهدفتهم، وأنه أصيب بشظية في قدمه وأخرى في كبده وخرجت نحو القلب، “كان بينها وبين قلبي 2 سنتيمتر” بحسب العشريني.
ويضيف: “نجاتي أعجوبة، كان النّزيف حاداً، هكذا أخبرني الأطباء، لم ينجو أحد سوى أنا وصديق لي”.
وفي الثالث من آب/أغسطس الجاري، استهدفت مُسيرة تركية، سيارة بالقرب من مفرق علي فرو غرب مدينة القامشلي، مما أسفر عن فقدان أربع مقاتلين من قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لحياتهم، وجرح اثنين آخرين.
واختتم آراس حديثه بدمعة شقت طريقها بين جفنيه، حاول كبتها إلا أنها أبت إلا أن تهرب من مدمعه علها تخفف نيران حرقة قلبه، “آرام كان السّند، العمود الذي نتكئ عليه، كان الأساس، معه لم نكن نخشى مواجهة شيء، لأن وجوده كان كافياً لبعث الأمان فينا، حتى لو كان بلا يدين وقدم، إلا أنّ أمله كان يقوينا، لم نكن نحمل سلاحاً عندما خرجنا، أردنا أن نستمتع كغيرنا بالحياة، لكن تركيا أبت أن تعطينا هذا الحق”.
وبتاريخ 5 آب/أغسطس، خرج الآلاف من سكان القامشلي وريفها، وغصت مقبرة دليل صاروخان، بالمشيعين، بينهم كانت امرأة تجلس أمام براد حفظ الجثامين، تنهمر من عينيها الدّموع كالسّيل، وتفوح من ملامحها رائحة العتاقة، تنتظر لترى جثمان ابنها للمرة الأخيرة، وتودعه بنظرها، على أمل أن ينهض من نومه العميق، وهي تدرك أن من يتداركهُ الموت لا يعود.
“حضن الموت”
وبعينين متورمتين يضع شاكر حسن (27 عاماً) من سكان مدينة القامشلي، أحد أصدقاء آرام المقربين، يده على كتف شقيق صديقه الذي يرثيه، بكلمات ربما لا تكفي لتعبر عما يختلج في صدره، “تدربنا معاً، نمنا وشربنا معاً، قاتلنا معاً، أُصبنا معاً، لكنه أبى أن يأخذني معه إلى الموت، ذهب وحده”.
ويوضح “حسن” أنه وآرام بدآ المشوار مع بعضهما في 2011، حاملين سلاحاً على كتف، وعلى الكتف الآخر قضية شعبهما ووطنهما، “كان جاداً في كل شيء، في صداقته، في عمله، في إرادته، في هدفه”.
ويستذكر “حسن” عام 2015، فترة حملة تل تمر، أثناء المعارك بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، “أصيب هو بثلاث طلقات، جاءت واحدة منها في يده أفقدته كف يده، وأنا أصبت بتسع طلقات لكني لم أفقد شيئاً من جسدي”.
ويشرح كيفية إصابتهما، “علق صديق لنا، وكنا أمام خيار إما نتركه لحضن الموت أو البحث عنه والموت معه، أبى آرام أن نتركه خلفنا، فذهبنا إليه مع عدد من رفاقنا، وأثناء إنقاذنا له، أصيب 18 شخصاً، نحن منهم، رغم ذلك لم يأخذ الاستسلام مأخذه منه، بقي آرام كما هو”.
هذا واستمرت مشاركة آرام في الحملات حتى جاء عام 2017، ويقول “حسن”: “كانت فترة حملة الرّقة، ونحن نحارب ضد داعش انفجر لغم في آرام، فقد على إثره يده الأخرى من السّاعد وقدمه كاملة، وهنا كانت الصّدمة، تأثرنا بما حدث، فشاب عشريني في مقتبل العمر يفقد أجزاءَ من جسده”.
ويضيف: “حاولنا تعزيته، كنا نظن أننا نخرجه من المحنة هكذا، تبين لنا أن تلك الابتسامة لن تختفي، لأنه لم يشعرنا بأي نقص، بل هو من كان يعطينا المعنويات”.
وعلى إثر ذلك، سافر آرام إلى إقليم كردستان العراق، “وضعوا له يداً صناعية (برودست)، لكي يستطيع أن يمسك بها أي شيء دون مساعدة أحد”، وفقاً لما ذكره صديقه.
ويسترسل “حسن” بقوله: “مررنا بالكثير، إلا أنه كان دائماً ما يُردد جملة (نحارب كي لا تذهب الدّماء التي سفكت هدراً على أرض الوطن، ومشوارنا بدأناه لذا سنكمله حتى النّهاية)، لذا كان وما يزال عنوان للجدية، صفته التي أعطته كل هذا الكبرياء والشّخصيّة، رغم أنّ له جانباً آخر مزوحٌ ومحبٌ للضحك والحياة”.
ويتساءل الشاب، عن استهداف الطّائرة التركية لصديقه آرام: “لم يكن يملك لا يدين ولا قدمين، فما الذي كانت تركيا تريده منه لتستهدفه هكذا؟
وفي زاوية إحدى غرف المنزل، الذي ضاق بأصحابه بعد نكبتهم, ما يزال يجلس أبٌ مفجوع، يعاني من رجفةِ في جسده، إثر أزمات صحية أنهكت جسده، يضع صورة ابنه البكر على صدره، يحاول الشعور بجسده الغض، الذي يتآكل تحت التراب وهو في ريعان شبابه.