جماهير السويداء لم ولن تنسَ اغتيال استخبارات النظام الشيخ أحمد سلمان الهجري في آذار 2012، رداً على إحباط الشيخ الهجري لأكثر من محاولة لأجهزة أمن الأسد بإشعال فتنة طائفية بين جبل العرب وسهل حوران. كان الهجري بوطنيته المشهودة سداً منيعاً بوجه كل مخططات النظام فنالت منه يد الإجرام وعلى دفعتين، وتتالت بعدها مواقف شيوخ الكرامة في الجبل الأشم، خاصة بعد قرارهم بمنع أبنائهم من المشاركة في جيش القتل الأسدي حرصاً على دماء السوريين، وحرصاً منهم على عدم تلطخ أيدي أبنائهم بتلك الجرائم البشعة التي يرتكبها جيش النظام بحق السوريين، لذلك وعلى مدار سنوات الثورة كانت مهمة العميد وفيق الناصر رئيس فرع الأمن العسكري التنكيل بأهالي السويداء والتآمر عليهم بما استطاع سبيلاً.
خلال السنوات الماضية تشكل أكثر من وفد من جيش الأسد واستخباراته ومن الفرقة الرابعة (اللواء غسان بلال) وغيرهم بمحاولة لإقناع رجالات السويداء ومشايخهم بإرسال أبنائهم للخدمة بجيش النظام، لكن ردهم كان ولا زال: “لن يشارك أبناؤنا بهذه المقتلة وأننا نسعى إلى النأي بأبنائنا عنها”، فكان عقاب الأسد لتلك المحافظة الحرة بتسليط أذرعه النافذة عبر تسهيل وفتح الطرق لتنظيم داعش الإرهابي للانتقال من وادي اليرموك للأطراف الشرقية من ريف السويداء لارتكاب جريمة بشعة بحق الأهالي المدنيين، عبر قتل وخطف أكثر من 54 شيخاً وامرأة وطفل على يد داعش.
تلك المواقف حفرت في ضمير وذاكرة أهالي السويداء الذين صبروا قدر المستطاع، لكن أن يتحول جبل العرب معقلاً لمعامل الكبتاغون وخطوط تهريب المخدرات إلى الأردن، مع غياب الأمن وغياب الاستقرار عن المدينة وريفها، ليُضاف ذلك لكل الأوضاع المعيشية السيئة التي جرها نظام الأسد على سوريا بشكل عام وعلى جبل العرب بشكل خاص، هو أمر مرفوض لمعظم شيوخ عقل الطائفة الدرزية وأبنائها الأحرار؛ فهبت السويداء لتعلنها مواجهة سلمية مفتوحة مع نظام الأسد وأجهزته الأمنية، فخرجت المظاهرات وأعلن الإضراب العام وازدادت الاحتجاجات التي قطعت طرق الجنوب نحو دمشق إلا للحالات الطارئة، ولم تجدِ نفعاً كل محاولات رئيس فرع حزب البعث بالسويداء للسماح له للذهاب إلى مكتبه الأمر الذي اضطره للعودة إلى دمشق يجر خلفه أذيال الخيبة.
حاول النظام التقليل من حجم إضراب ومظاهرات أهالي السويداء وما تمثله من ضربة مؤلمة لكل أجندات وسياسة الأسد وشعاراته الكاذبة التي أطلقها وخاصة ورقة حماية الأقليات، فأخرج مسيرة لعشرات الحزبيين من عناصر البعث بمحاولة للقول ليس كل السويداء من ترفض الأسد، لكن أحلامه تبخرت بعد عدة أيام من انتفاضة أهل السويداء الذين رفعوا علم الثورة بالساحة الرئيسية للبلدة وسط أجواء إضراب عام واغلاق للمحلات التجارية وشلل شبه كامل لحركة النقل والمواصلات، وترافقت تحركات السويداء مع تحرك مدينة درعا وأريافها؛ ففي بلدة ناحته بريف درعا الشرقي كانت هناك كتابات على الجدران تطالب بإسقاط النظام وطرد إيران، وشهدت بلدة سحم الجولان في ريف درعا الغربي مظاهرة ليلية طالب فيها المتظاهرون برحيل الأسد عن السلطة، وفي مدينة نوى بريف درعا الغربي قصفت ميليشيات النظام المدينة تزامناً مع مظاهرة ليلية خرج بها العشرات من أبناءها بساحة المخفر، كما شهدت المدينة اشتباكات بين مسلحين محليين وعناصر الأمن العسكري بعد هجوم نفذه المحليون بقذيفة آر بي جي على ميليشيات النظام التي أطلقت النار لتفريق المتظاهرين.
وتؤكّد بعض المعلومات أن النظام يقوم بحشد قواته على تخوم بلدة زاكية بريف دمشق الجنوبي ويهدد باقتحامها على خلفية انضمامها إلى الحراك السلمي في درعا والسويداء وتأييدها للاحتجاجات ضد النظام، لكن ما أرعب النظام ودخل بمعضلة حقيقية هي الدعوة والتنسيق الذي أُعلن عنه مؤخراً ويؤكد حصول توافق بين نشطاء في السويداء وآخرين في الساحل ودرعا وإدلب لإعلان حراك يوم الجمعة القادم في جميع أنحاء سوريا، والاتفاق على تسمية الجمعة القادمة بجمعة “الشعب السوري واحد”، مع توحيد وقت انطلاق التظاهرات بحيث تبدأ عقب الانتهاء من صلاة الجمعة، مع توجيه الدعوة للنشطاء الثوريين في أوروبا والخارج لتنظيم مظاهرات مماثلة في الدول التي يقيمون فيها، على أن تؤكد وتُجمع تلك المظاهرات على ضرورة رحيل الأسد.
صحيح أن وحدة السهل والجبل في الجنوب السوري تشكل ضربة قاسية ومؤلمة لنظام الأسد لطالما حاول جاهداً فك عرى التلاحم بينهما، لكن الضربة الأشد إيلاماً تلقاها نظام الأسد من الساحل السوري، بعد خروج أصوات عالية ونوعية مثل أيمن فارس وماجد حافظ دواي وغيرها من الأصوات التي عرّت نظام الأسد وكشفت حقيقته بأنه نظام يبحث عن كرسي السلطة فقط بعيداً عن كل الشعارات الجوفاء، التي أطلقها وصدقها البعض ودفعت أثمانها مئات ألوف القتلى والجرحى في صفوف الطائفة العلوية، عدا عن قتل وتشريد لملايين السوريين. اليوم يسحب الحراك في السويداء وفي الساحل أهم أوراق الأسد التي تاجر بها على مدار سنوات الثورة ألا وهي ورقة “حماية الأقليات”.
المشهد السوري اليوم أصبح جلياً، ولا يحتاج لكثير من التحليل والتمحيص والتوكيد، وهو على الشكل التالي: سلطة طاغية حرقت كل أوراقها وحرقت البلد معها/ وشعب يتوق للحرية والتخلص من نير الاستبداد والظلم والتبعية والارتهان للإيراني والروسي، والمشهد الأكثر وضوحاً هو رفض نظام الأسد لأي شكل من أشكال الإصلاح والتغيير، وأن النظام كان ولا زال يحارب بكل قوته وقوة حلفائه لإعادة السوريين لما كانوا عليه قبل عام 2011، وهذا ما تجلى في الاجتماعات المتعددة التي حاولت فيها وفود من شرقي الفرات قادتها الإدارة الذاتية لإيجاد مخرج وحل سوري_ سوري عبر توافقات داخلية، لكن النظام رفض كل مبادرات الإدارة الذاتية، وأصرّ على فرض شروطه التي تهدف لإذلال السوريين وإعادتهم للبسطار الأمني والعسكري لنظام الأسد، وما أخفقت فيه الإدارة إلى الآن، أخفقت فيه أيضاً كل وفود التفاوض الأخرى المتفرعة عن الائتلاف الوطني، انطلاقاً من جنيف إلى أستانا إلى جولات واجتماعات اللجنة الدستورية، بعد أن حوّل النظام كل تلك الاجتماعات إلى ساحة لتضييع الوقت والبحث عن تعاريف ومصطلحات، ورفض الدخول بأي نقاش جدي يمكن أن يؤسس لحل سوري يوقف المقتلة السورية.
حراك السويداء ودرعا ووحدة سهل حوران وجبل العرب بقيمتهما المعنوية والسياسية والثورية تشكل مشهداً مرعباً للأسد، وإذا ما أُضيف إليهما مشهد بركان الغضب المتفجر في الساحل، نكون أمام لحظة مفصلية ربما تضع اللمسات الأخيرة لنهاية حكم الأسد، ولعل انضمام بقية المحافظات وخاصة في دير الزور وحلب وحمص وحماه لاحقاً، سيكون له الأثر الأكبر بتسريع السقوط. فهل نحن أمام سيناريو الأيام الأخيرة لحكم القذافي؟ أم أن هناك تصفيات داخلية قد تنوب عن الجميع، ومعها تتحرر سوريا وتدخل الفرحة لقلوب السوريين وتعيد لهم سوريتهم الضائعة، وتؤسس لبناء بلد جديد، بلد يتساوى فيه الجميع تحت سقف الوطن والقانون، بلد يتصدر مشهده السياسي والحكومي والعسكري الأجدر بخدمة السوريين بعيداً عن أي طائفية وقومية ودين.