خلال الأيام القليلة الماضية رفعت حكومة الأسد أسعار مواد المعيشة الضرورية أضعاف “الزيادة” التي تمت إضافتها على رواتب الموظفين. ترقيعات والتفافات مكشوفة تقوم بها هذه الحكومة المحكومة بالفشل والفساد، وكنتيجة متوقّعة حصلت سلسلة من الانفجارات الشعبية ضد سياسيات التجويع في درعا والسويداء والساحل وبعض أحياء العاصمة دمشق الواقعة تحت ظلال القصر الجمهوري، فيما اللافت أنه تم رفع لافتات تنادي برحيل النظام على الفور.
وفي مقطع فيديو نشرته وكالة نورث برس يصرخ مواطن من السويداء من بين الحشود “شبعنا قومية وعربية… بدنا نعيش بكرامة”. هذا يعيدنا إلى ما قاله الكاتب اللبناني حازم صاغية في كتابه (البعث السوري): “لقد حصد ذاك النظام العاصفة بعد زرعه الريح، معيداً بلاده ملعباً وباعثاً [الصراع على سوريا] مجدداً، وفي أسوأ الأشكال وأخطرها”.
يبدو أن بروباغندا النظام لم تعد تعمل وفقاً لما أريد لها، فمن الحماقة السياسية إلهاء السوريين الواقعين تحت سطوة النظام بالنتائج، وتناسي المسبّبات أو عدم رؤيتها، وترويج النظام لروايات تبرّر مآلات الأوضاع في سوريا بأنها نتيجة “لمؤامرات خارجية” أو نتيجة السيطرة على الموارد الطبيعية من قبل “الكرد الانفصاليين” أو بسبب “قانون قيصر” الشكلي.
في الأثناء يكثّف النظام سياسات تلاعبه بعقول السوريين عبر الاعتماد على منصّات السوشيال ميديا بتوجيه بعض “مؤثريه” من الممثلين و”المهرجين” الذين يسمون أنفسهم تارة إعلاميين وتارة أخرى يوتيوبرية، ولعل مضيّ النظام في اعتماد منهج التنفيس هذا يعود إلى سياسة اتبعها في فترات تفشي الفقر والفساد كما في دعمه لأعمال درامية كلوحات “بقعة ضوء” أو سلسلة لوحات “مرايا”، هذا المنحى المجرّب يعكس رؤية أمنية تحاول تقليص مساحة الاحتجاجات وإمكانية تناميها إلى حيث شاشة الموبايل أو التلفزيون، وبالتالي يصبح هذا التنفيس طريقة للاستيعاب بدل معالجة أسّ المشكلة (سياسة النظام)، والتركيز تالياً على النتائج بدل المسبّبات.
والحال، أن النظام يعمل عبر أجهزته الأمنيّة “المكشوفة” على إبراز الأحداث والأزمات المتلاحقة بأنها تحدث فجأة في الواقع، ولأسباب يشرحها هو نفسه “للشعب”، غير أن ما لا يريد النظام الاعتراف به هو الحديث، ولو لمرة واحدة، عن الأسباب الحقيقية للأزمة وربطها بمراحل سابقة والأحداث التي بدأت منذ آذار/مارس 2011، بل يصرّ على إلصاق كل ما جرى ويجري بمسبّباتٍ خارجية مباشرة تنصّلاً من مسؤوليته إزاء الأوضاع الكارثية الراهنة.
يرفض النظام إلى ذلك الاعتراف بأن المشكلة ليست في فساد وزير، أو استبدال سفير، أو القبض على مدير وطرد موظفين وإقالة مسؤولين، أو انتقاد نواب في مجلس الشعب أداء الحكومة وفقاً لموافقات أو أوامر صادرة عن أقبية الاستخبارات، ولعل هذا التهرّب من تحمّل المسؤوليات يتبع للتكوين السياسي لهذا النظام الذي يقنع نفسه أنه متماسك وقوي من خلال إلقاء اللوم على بعض مسؤوليه، أو عبر تشويه معارضيه أو تعريفهم عبر نماذج سيئة.
وعلاوة على الأسباب الاقتصادية والمعيشية، فإن ما نشهده اليوم من عودة الاحتجاجات إلى الجنوب السوري بقوة وحضورٍ كبيرين، بعد أكثر من عقد من القسوة والوحشية التي مارسها النظام ضد معارضيه، وما نراه من انقسام وتفشّي الكراهية بين السوريين قومياً وعشائرياً ودينياً وطائفياً وسياسياً واجتماعياً، إنما يعود أيضاً إلى طبيعة أدوار النظام ببنيته وتكوينه السياسي الذي يعتمد على سياسة “فرّق تسد”. يضاف إلى ذلك أن النظام يرفض الاقتناع بغير طريقة حكمه الشديدة المركزية وأنه يتوهم ببقائه قوياً طالما أنه يعادي الشكل اللامركزي للحكم والذي قد يخفف عن السوريين في المناطق التي يسيطر عليها من حدّة تدخلاته وأشكال فساده.
وخلال الأشهر القليلة الماضية تفاءل سوريون بإمكانية الخروج من أزمتهم الاقتصادية والسياسية من خلال المصالحة العربية مع دمشق، إلّا أن النظام فرّط بهذا المخرج المتاح أيضاً، إذ لاح مسار التطبيع والمبادرة العربية كآخر فرصة ممكنة لهذا النظام، المنقسم بين التبعية لإيران وروسيا، لكي يعيد النظر فيما ارتكبه وإيجاد حل يرضي جميع الأطراف عبر المشروع الأردني “الخطوة مقابل خطوة” المستند للحل الأممي 2254. لكن عدم تجاوب دمشق مع هذه المبادرة والإبقاء على صناعة وتجارة المخدرات خيّب آمال أشقائه العرب، لاسيما الإمارات، التي حاولت تسويقه وإعادة تعويمه، فأوقفت السعودية ترميم سفارتها وعادت الأردن مهددة بالتدخل العسكري إذا لم تتوقف دمشق عن إغراق جيرانها بالمخدرات، جملة هذه المسائل ساهمت في اشتداد الاحتجاجات ضد النظام، ذلك أن الناس باتوا دون أيّ أمل.
بطبيعة الحال، ظنّ الأسد الذي يقود هذه المنظومة الأمنية – العسكرية أن العرب استقبلوه من منطق أنه قويّ ومنتصر في الحرب، ولا بدّ لهم من التعامل معه، ولكن تراجع العرب عن اندفاعتهم أعاده إلى المربع الأول لنشهد مرة أخرى رفع أعلام المعارضة في مظاهرات كبيرة في درعا التي تعتبر مهد الاحتجاجات.
هناك أدلّة واضحة على صعوبة وضع النظام يمكن إجمالها في: نشاط حركة الاحتجاجات الحالية في الجنوب السوري واختناق “الموالاة” في الساحل وفي قلب العاصمة جراء الحالة المعيشية الصعبة. واستباحة آلة التتريك للأراضي السورية في الشمال، وفرض سلطات الأمر الواقع شبيهة بحكم حركة طالبان. وتمدد داعش في البادية وشرقي سوريا وتنامي دور المليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً هناك.
إن النتائج التي تعيشها سوريا اليوم جاءت من منهج وسلوك النظام منذ بدء الاحتجاجات، وهو ما لا يقوى النظام على قوله حتى وإن انهار بشكل أو بآخر، رغم معرفته أن التصرفات نفسها ستؤدي إلى النتائج نفسها، بل ربما بلوغ نتائج أكثر كارثية.
إن الإصرار على الحلول الأمنية والتعامل مع المعارضين على أنهم خونة ومأجورين، مع الاستمرار في صناعة وتجارة المخدرات، وإلقاء اللوم على الخارج وعلى المعارضين، إنما يزيد الطين بلة ويكرّس التقسيم الجغرافي ويُفقد السوريين قيمة انتمائهم وهويتهم الوطنية، تماماً مثلما فقدت الليرة قيمتها.