ليلى الغريب ـ دمشق
شكلت الزيادة الأخيرة على الرواتب في مناطق الحكومة السورية، أوضح مفارقة في تاريخ البلاد عن كيفية “خفض” قيمة الراتب عبر زيادة أسعار السلع، وبالتالي إعادة تحصيل ما تم تقديمه على أنه زيادة في الرواتب.
ولم يكد السوريون ينهون قراءة مرسوم زيادة الرواتب بنسبة 100 في المئة، (وهي نسبة لا تغطي تكاليف المعيشة حتى قبل رفع الدعم)، حتى صدرت قرارات رفع أسعار المحروقات، وبنسبة تجاوزت 160 في المئة، ليتبين أن ما جرى عملياً هو خفض للرواتب، وخاصة مع الفوضى التي شهدتها البلاد بعد ساعات وارتفعت فيها جميع الأسعار.

زيادة “في ليل”
في سابقة لم تشهدها البلاد من قبل، صدر مرسوم زيادة الرواتب والأجور في ساعة متأخرة من ليل الأربعاء، وتزامناً مع مجموعة قرارات نشرتها وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، رفعت بموجبها الدعم عن معظم السلع “المدعومة”.
توقيت النشر، حسبما يقول صحفي سوري متخصص بالاقتصاد، يشير إلى أن الهدف الرئيسي لم يكن زيادة الرواتب قدر ما هو رفع الدعم، وزيادة الأسعار، وقد اعتاد السوريون على قرارات “رفع الدعم التدريجي” سابقاً والتي كانت جميعها تأتي بعد الحادية عشرة ليلاً.
ويضيف لنورث برس: “الحسابات السريعة تظهر أن الرواتب تراجعت عملياً، عبر انخفاض القيمة الشرائية، ورفع الدعم عن السلع، مثال ذلك أن راتب 150 ألف ليرة كان يكفي لشراء 50 ليتراً من البنزين قبل أيام وحين كان سعر الليتر عند 3000 ليرة، وبعد الزيادة بنسبة 100 في المئة، سيكون راتب 300 ألف ليرة كافياً لشراء 37.5 ليتراً فقط من البنزين بعد رفع سعره إلى 8000 ليرة لليتر الواحد”.
ويشير الصحفي إلى حالة الفوضى التي شهدتها البلاد صباح اليوم التالي، لرفع الدعم مع زيادة الرواتب، وتعطل الحركة، والازدحام، والارتفاع الفوضوي في الأسعار، مع مواصلة الليرة حالة التدهور إذ تجاوز سعر الصرف 16 ألف ليرة، وهو ما سينعكس مباشرة على الأسعار.
ويضيف أن هناك مسألة أخرى تتعلق بالتوقيت، “فالحكومة ستحقق المليارات من رفع الدعم، قبل أن يبدأ سريان زيادة الرواتب”، إذ أن مرسوم الزيادة سيكون سارياً مطلع الشهر القادم، بينما تسري الأسعار الجديدة منذ الدقيقة الأولى لصدور القرار، وهو ما يعني أن الموظف سيدفع عملياً تلك الزيادة حتى قبل أن يستلمها، أما الحكومة فستكون كمن “قبض” قيمة الزيادة حتى قبل أن تدفعها.
ويرى أن “هذه حكومة تخلت عن كل مسؤولياتها، ولديها دوماً المزيد مما يدفع الناس إلى الجوع الحقيقي، لديها دوماً ما يطيح بالناس إلى هاوية تبدو الآن دون قعر، ففي كل يوم هناك قعر جديد”.
جنون جديد
وزارة النقل أصدرت قراراً حددت بموجبه تعرفة النقل بما يتراوح بين 75 ليرة إلى 90 ليرة لكل كيلومتر واحد، وهو ما يعني أن تكلفة النقل بين المحافظات ارتفعت إلى 20 ألفاً حداً أدنى وتتجاوز 33 ألف ليرة في حالة السفر من حلب إلى دمشق مثلاً.
وحسب بعض الذين تسوقوا في اليوم التالي لصدور المرسوم، فقد شهدت الأسواق حالة من “جنون الأسعار” مجدداً، وقد تفاوتت الأسعار حسب نوع المادة والأسواق، وارتفعت معظم الأسعار مباشرة، بما يتراوح بين 500 إلى 4000 ليرة، بينما أدت حالة الفوضى في وسائل النقل إلى ازدحام شديد، حتى أن بعض الطلاب أكدوا أنهم خسروا مواداً بسبب عدم قدرتهم على التحرك.
وفي الحدود الدنيا ارتفع سعر كيلو الرز إلى 20 ألف ليرة، والبطاطا إلى 4 آلاف ليرة، الفاصولياء ارتفعت إلى 10 آلاف ليرة، كيلو السكر إلى 14500 ليرة، ليتر الزيت إلى 27 ألفاً، لحم العجل إلى 125 ألف ليرة، صحن البيض إلى 43 ألف ليرة.
“يضحكون علينا”
الناشط غسان جديد، أجرى عبر صفحته في “فيسبوك” حسابات حول العوائد المتحققة، قائلاً: “إنهم يضحكون علينا بلا حياء ولا خجل”.
وحسب “جديد” فإن الحكومة ستحقق 20 مليار ليرة يومياً من رفع سعر البنزين، وهو ما يعني أنها ستحقق 7200 مليار ليرة في السنة.
ويشير “جديد” إلى تصريح وزير المالية الذي قال إن زيادة الرواتب كلفت الخزينة 4000 مليار ليرة سنوياً، ويقول: “طيب هم أمنوها وربحوا حوالي ضعفها قبل أن يدفعوا منها قرشاً واحداً”.
ويوضح أن تلك الحسابات تخص مادة واحدة هي البنزين، بينما ستكون الزيادة في أسعار المازوت والفيول “ربحاً إضافياً للحكومة”.
انفصال عن الواقع
رئيس حركة البناء الوطني، أنس جودة، تحدث عبر صفحته في “فيسبوك” عن طريقة إصدار قرارات زيادة الأسعار، وخاصة البنزين، قائلاً إن من قام بذلك “لا يعنيه أحد من الناس ولا يعرف أصلا كيف يعيشون ويتنقلون”.
وأضاف أن من أصدر تلك القرارات “لا يعرف أن هناك امتحانات، وأن رفع سعر البنزين سيجعل آلافاً من سائقي التكاسي عاطلين بلا عمل”.
ووصف تلك القرارات بأنها “ارتجالية”، قائلاً إن “الفشل والغباء في إدارة شؤون الناس وصل حداً لا يوصف”، وختم بالقول: “هو يعيش منفصلاً لوحده ولا يعنيه أي أحد”.
رغم أن معظم الزيادات السابقة على الرواتب كان يعقبها ارتفاع في الأسعار، حتى أن السوريين صاروا يتخوفون من زيادة الرواتب، إلا أن الزيادة الأخيرة مثلت حالة أكثر وضوحاً وقسوة، فالزيادة ترافقت مع رفع الدعم، وارتفاع أسعار المحروقات بنسبة تجاوزت 166%، ومع ارتفاع في أسعار جميع السلع.
حالة من الغضب وجدت صداها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكتب كثيرون أن تلك الزيادة هي في الواقع نقصان في الراتب، الذي لم يكن أصلاً يكفي حتى للحاجات الضرورية، بعد الاستغناء عن كثير منها والاكتفاء بحياة على شفير الجوع.