كان ثمة مدرسة فلسفية في اليونان القديمة تقول إن الواقع الموجود يمكن أن يتلاشى حال إغماض العينين وأنه لا يبقى للموجودات أي أثر إثر ذاك، بمعنى أن كل ما نراه هو مجرّد وهم محض، كأن ترى جبلاً موجوداً وحين تغمض عينيك يختفي الجبل من الوجود. ثمة شيء من هذا التجريب الفلسفي بنتائجه العبثية يمكن إسقاطه على حالة متيقنين لا يرون أن تنظيم داعش موجود بالفعل، ولعل إغماض العينين عن العمليات شبه اليومية التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وقوات التحالف الدولي وكذلك هجمات التنظيم الدموية هي من الأسباب التي ساهمت في تكوّن مثل هذه القناعة المضلِّلة.
بكل المعاني لم يكن داعش نمط حياة متدينة شديدة الانغلاق أو وجهة نظر رجعية فحسب، بقدر ما مثّله من جهاز قادر على إشاعة الخوف وبناء شخصية مغايرة عن الحركات الجهادية الأخرى، ذلك أن الإفراط في التخويف بوصفه أداة لن تفارق خيال المجتمعات التي يتم حكمها بالإرهاب والقسوة وتمديدها على سرير الرعب. كانت داعش جهاز إبادة فوق أنه آلة قتل مشهديّ يومية وكانت مناطق حكمه “مستعمرات عقاب”، لكن (الجهاز والآلة والمستعمرة) لم تكن مسائل مقطوعة النسب بما حصل قبل أربعة عقود مضت في العراق وفي العقد الأخير في سوريا، وإذا كان المفكر العراقي الراحل، فالح عبدالجبّار، حاول الإجابة عن سؤال “من أين جاءت داعش؟” التي يرى أنها ولدت من “المخيال السنّي” أو من تشكّل “الهوية السنية” التي ولّدته بدورها سياسات صدّام حسين بين أعوام 1993 و2003 إثر إعلان صدام حسين “الحملة الإيمانية” و”حملة إحياء العشائر” والتي أسبغت على المحافظات السنية عموماً اسم”الغربيّة” تعبيراً عن جهة واتجاه سياسيّ/مذهبيّ، إلا أن عبدالجبار قصر جهده النظريّ في تعقّب داعش داخل العراق دون سوريا، ولم يتوسّع في النظر إلى خريطة امتداد التنظيم الكاملة وتشابه البيئة التي نما فيها داعش على طرفي الحدود؛ ففي سوريا نما داعش في ظلال خطاب شديد الطائفية والاستقطاب، أجّجته معارضات سورية بدأت بصناعة مخيالٍ سنّي موازٍ لذلك الذي ظهر في العراق، ولعل دير الزور بوصفها المنطقة السورية الأكثر تأثراً بما يجري في العراق كانت أولى ضحايا تنظيم داعش، وكذا ضحية خطابٍ معارضٍ سوريّ مبتذل وعصابي ينطوي على اختراع مظلومية قابلة للانفجار، وهكذا بات يطلق على اسم مناطق برمّتها المنطقة الشرقية أو “الشرقية” وهو ما يقابل الغربية في العراق، اختزالاً لمدن دير الزور والبوكمال والميادين، وامتداداً على مسار الحدود السورية مع العراق جنوباً.
داخل هذه البيئة الممهدة للخراب والقابلة للاحتراب، جالت داعش في بنية اجتماعية مهمّشة وبين عشائر مثقلة بالانقسامات ومتعددة الولاءات، ملقيةً الخوف في قلوب الجميع، ولايزال للتنظيم في “الشرقية” موطئ قدم، فيما خلاياه قادرة على العمل والتكيّف مع الخسائر التي مني بها، ويمكن تبعاً لذلك تتبّع سير عمليات الاغتيال والإغارة التي يقوم بها التنظيم في دير الزور والبادية السورية مذ هُزم وخسر آخر معاقله العصية في الباغوز 2019، وما تكشفه العمليات من قدرة على التخفّي والظهور لاسيما في المنطقة الواقعة تحت سيطرة النظام. في الشهر الجاري وحده، ألحق داعش خسائر غير مسبوقة بقوات النظام وقتل العشرات من جنوده وكان أعلاها في بادية الميادين.
ولكن إذا تمعنّا بعيون مفتوحة على وسعها في العمليات التي تقودها قسد والتحالف الدولي، سنجد جهداً كبيراً في سبيل الإجهاز على التنظيم رغم صعوبة الأمر، إذ إن مسألة إنهاء التنظيم بشكل مبرم تبدو مستحيلة في ظل التنازع بين القوى الراغبة في السيطرة على الشرقية، وانعدام التنسيق بين مختلف الأطراف في ملف محاربة داعش، علاوةً على خبرات التنظيم اللوجستية المتراكمة، والتي لا يقاس عمرها بفترة ظهور التنظيم فحسب، بل تعود إلى الفترة الممتدة منذ عام 2003 وإلى الآن، وهي ليست مجرد خبرات جهادية استُحضرت من تجربة القاعدة وتفرّعاتها في أفغانستان والعراق، بل أضيفت إليها خبرات رجالات نظام صدام حسين البائد ممن اضطرّوا للتكيّف مع حالة انهيار دولة البعث وانخرطوا في جهود مقارعة الأمريكان في العراق وإرهاب المدنيين، لاسيما الشيعة، والحال أن هذا المُركّب التنظيمي بخبراته وتجاربه بات مجهّزاً للعمل حتى في ظل أعتى الظروف.
وبالاحتكام إلى الأرقام والتقديرات، ومحاولة تحويلها إلى نتائج، وبمراجعة ما حصل في النصف الأوّل من هذا العام، فإنه يمكن القول إن الأشهر الماضية حفلت بالحملات الأمنية لمواجهة التنظيم، مقابل نشاطية بالغة أبداها التنظيم وقدرة على شنّ هجمات مميتة. نفّذت قسد مايزيد عن 80 عملية بينها نحو 20 عملية قادها التحالف الدولي، لينجم عن الحملات اعتقال لأكثر من 500 شخص من المتهمين بالانتماء لداعش، بينهم متزعمون للتنظيم، ومقتل عناصر في التنظيم وإصابة آخرين، بينما نفّذت قوات النظام 7 عمليات فقط ولم تحقق نتائج تذكر.
على المقلب الآخر، نفذ التنظيم أكثر من 70 هجمة في مناطق سيطرة قسد، استهدف في أكثر من 30 عملية منها المدنيين، كما شن أكثر من 30 عملية أخرى ضد أهداف حكومية، وأخرى استهدفت الميليشيات الإيرانية، ولعل الوجه الأكثر وحشية للتنظيم ظهر في إقدامه على قتل العشرات من المدنيين وإصابة آخرين كانوا يجمعون الكمأة، ولعل هذا الاستهداف لفقراء اضطرّوا لجمع الكمأة إنما دلّ على رغبة التنظيم توجيه رسالة مفادها أنه موجود وأن آلة قتله لم تصدأ بعد، وأن القصاص القادم سيطال الكل دون وجود مبرر لما يستوجب العقاب أصلاً.
غير أن أعلى أرقام الهجمات وقعت في دير الزور بمقدار 64 هجمة في مقابل 12 هجمة في الحسكة وواحدة فقط في القامشلي، ويكشف تفاوت أعداد الهجمات بين دير الزور والحسكة عدة مسائل، من بينها: أن تعدد القوى المسيطرة على الأرض خلّف وراءه فراغاتٍ استطاع داعش ملأها أو التحرك في ثناياها. كما كان لمراكمة الحضور الإيراني والأنشطة المرتبطة بحركة نشر المذهب الشيعي في دير الزور دوره في أن تحضر الهوية المضادة. بكلمات أخرى، أظهر الحضور الشيعي داعش بأنه المكافئ الرمزي للمليشيات الشيعية، وأن الإكثار من الحضور الإيراني زاد من حضور داعش على مبدأ يشبه مبدأ الأواني المستطرقة. فيما يمثّل أحد الأسباب الإضافية لنشاط داعش في الشرقية اتساع مساحة المحافظة وامتدادها على البادية والحدود العراقية بشكل غير متناسب مع قدرات النظام على ضبط الأوضاع.
في المحصلة يمكن الحديث بوضوح مجبولٍ بالأسى عن صفحة داعش التي لن تُطوى في ظل جملة هذه الظروف المتراكبة ، ويزيد من مقدار التشاؤم التشظي المجتمعي في شرقي سوريا الذي يغذّيه تعدد القوى الدولية والإقليمية المتواجدة هناك، والأهم من ذلك أن كل تعطيل لفكرة إعادة بناء الدولة السورية، بما في ذلك التهرّب من فكرة الحل السياسي، سيمثّل نسغ الحياة لتنظيم داعش ومدّه بكل أسباب الحياة، وحياة داعش هنا تعني موتاً للآخرين.