رغم التفكك العام الذي يبدو السمة السائدة في السويداء كمحافظة ذات أغلبية سكانية تتألف من “أقليات” سورية، لكنها لا تخضع في الوقت نفسه لسلطة النظام كما في حالة دمشق والساحل. ورغم عدم خضوعها لسلطة النظام فإن مجتمعها غير متماسك كقوة موحدة قادرة على إدارة إمكانياتها الذاتية سياسياً واقتصادياً كما في شمال شرقي سوريا، فيما الجيد أنها غير محكومة بقوى جهادية كما في شمال غرب سوريا.
غير أن واقع المحافظة الذي ينطوي على هذه المفارقات هو مصدر قلق داخليّ، إذ تحاول أطراف عدة تجييره لصالحها، تتقدمه مجموعة من المشاريع السياسية تحاول توصيف هذه المنطقة، حسب رغبة مروجيها، دون أن تُقارب قاعدتها الاجتماعية العريضة إلى اليوم!.
صورة أولى تروّج عن أن أبناء السويداء خارجون عن أية قواعد سورية مشتركة، فهم “يخطفون ضيوف المحافظة ويبتزونهم مالياً، وهم معادون لجيرانهم وعموم السوريين!” وهو ما يخالف السائد والثيمة المعروفة عن مجتمعها الذي يُقري الضيف وينقذ الملهوف ويحمي الدخيل. فيما يقابل ذلك صورة تروج بأن أبناء السويداء يتجهزون لمعركة عسكرية ضد السلطة السورية سعياً لفرض إدارة ذاتية درزية عصبوية، وهو ما يخالف ما يرفضونه من حيث المبدأ، أي الحرب، إلا إذا فرضت عليهم أو كانت ضد عدو خارجي يهددهم وجودياً.
بين هاتين الصورتين ثمة محاولة لعدم الإنصات للصوت الكامن في القاع الاجتماعي العريض، أي أصوات أولئك الذين يختارون الحفاظ على أرضهم وهويتهم الوطنية والدينية، وينبذون الحرب واللجوء للعنف. وإلى اليوم رغم اشتداد مآزقهم الحياتية والمعاشية وضيق سبلها، لم يخطوا خطوة سياسية واضحة تجاه تشكيل حالة “انفصالية”، ولم يعادوا جيرانهم ومحيطهم الحيوي السوري، ولم يرضخوا إلى ذلك لسلطة النظام وشروط هيمنته وسطوته!
لكن بين الحرب المفروضة والمكروهة، وبين السلم والتعايش السلمي، ثمة مسافة من العقلانية والتبصّر والمصلحة تجعل أبناء الأقلية المنتشرة في السويداء أكثر تمسكاً بميراثها الاجتماعي المستقر في وعيهم الجمعي، رغم أن هذا الميراث لم يتحول لصورة سياسية بارزة وواضحة. أما المحاولتين الراميتين لترويج الصورتين المشار إليهما هنا، فيمكن اعتبارهما جزءً من أدوات سياسية استثمارية قصيرة الأجل، ولا تحتكمان إلى رصيد اجتماعي يدعمهما. الأولى تريد أن تجعل من السويداء منطقة معزولة عن محيطها الحيوي السوري، بل تعمل على شيطنتها وإبرازها كاستثناء، فيما الصورة الثانية لا تملك الرؤية العميقة لمقومات ومعطيات هذه الأقلية وتموضعاتها الاجتماعية والوطنية والأهلية. فمن هي هذه الأقلية وماذا تريد من الوضع السوري الحالي؟
بطبيعة الحال لا تكفي مقالة واحدة للإجابة على متغيرات المسألة السورية عامة، وأثرها الكارثي على عموم سوريا، وعلى أبناء جبل العرب كأقلية معروفيّة. أطلق العثمانيون عليهم في عام 1860 تسمية الدروز نسبة لنشتكين الدرزي، والمكروه من قبلهم، بدايات انتشار دعوتهم للتوحيد قبل نحو ألف عام، وذلك لبذر الشقاق والعداء بينهم ومحيطهم الحيوي في سهل حوران وريف دمشق، بعد توالي خسائر العثمانيين فيها. واليوم تُعاد الكرَّة ذاتها من قبل السلطة السورية بذات الطريقة والأدوات، وتوظف أدواتها الأمنية وعملائهم من أبناء السويداء ذاتها في تنفيذها، كما وظفها الأتراك والفرنسيون.
إن أبناء جبل العرب، رغم تطلعاتهم المشتركة مع بقية السوريين في بناء سوريا جديدة وحديثة، فقد أثبتت السنوات الماضية أن لهم خصوصية يجب إبرازها بوضوح والتعامل معها بمنطقها الاجتماعي قبل محاولة توظيفها السياسي:
– معظم سكان السويداء من الأقلية المعروفية، والمتسمة بسمات دينية معتدلة، لا تفرض دينها على أبناء جلدتها، ولا تبشر بدينها أو تدعو الآخرين إليه، ما أتاح لأبناء الأقلية مساحة واسعة للعمل السياسي والمدني في مختلف المراحل التاريخية؛ فكان الانضواء في حزب البعث تقابله انتسابات للأحزاب السياسية السورية المعارضة من مختلف التيارات السياسية، علاوةً على الاهتمام بالعمل المدني والاشتغال على السلم الأهلي بذات الوقت.
– اختارت السويداء الحياد خلال الأزمة السوري، خاصة بعد العام 2013، أي بعد احتدام العمل العسكري في كامل الساحة السورية. لكن حيادها كان متسماً بالإيجابية وفهم مختلف للوطنية. فقد استقبلت النازحين السوريين في بيوتها والتي وصلت أعدادهم لما يقارب ربع مليون نازح. ولم تذكر فيها حوادث تمييز أو سوء تعامل. فأسرة غياث مطر على سبيل المثال، وغيرها الآلاف من الأسر، لا زالت مقيمة بالسويداء إلى اليوم. إضافة لسحب أبنائها من الخدمة الإلزامية، ورفضها العام المساهمة في قتل وتهجير السوريين وترحيلهم من بيوتهم. أما الميزة الأخرى أنها اختارت مبدأ “الحماية الذاتية” رافضة رفع السلاح سواء على المعارضة أو مؤسسات الدولة في ذات الأوان.
– لم تنجح إلى اليوم طرق السلطة في إخضاع السويداء لسلطتها. فقد فشلت هجمة داعش 2018، وفشلت في إذكاء فتنة بينها وبين جيرانها في درعا، أو مع السكان البدو في قراها. وكانت الضربة الأقسى التي تلقتها السلطة الصيف الماضي، حين تمكّن الأهالي مع فصائل الحماية الذاتية فيها من اقتلاع أهم وأخطر عصابات الخطف والاتجار بالمخدرات المرعية، بالوثائق المثبتة، من الأجهزة الأمنية وبدعم ميليشاوي إيراني ومن حزب الله. تلك التي عملت على اختراق السويداء من داخلها، محاولة فرض قوة أمر واقع عليها تقوم بكل سياسات التنكيل بالمجتمع والخطف والسلب والاعتداء على كل السوريين المقيمين فيها، وتحويل السويداء ممراً لتجارة المخدرات لدول الخليج، ورغم ذلك حاولت الأجهزة الأمنية العمل في الظل دون اللجوء للصدام المباشر مع أبناء المحافظة.
– رفضت السويداء التطرف والإرهاب، ورفضت الهيمنة العسكرية الأمنية المباشرة. وهي تدرك جيداً معنى حراكها في المعادلة السورية، فهي لا زالت تختزن رصيداً شبابياً جيداً، وسمتها الدينية كأقلية تجعل السلطة عاجزة عن وصفها بالإرهاب كما باقي المدن السورية. وعليه، فهي ذات ميزان رابح في المعادلة الوطنية بتاريخها المؤسس لنواة الدولة الوطنية السورية، عندما تحالفت الكتلة الوطنية الدمشقية البرجوازية مع فلاحي السويداء الثوّار وبمقدمتهم سلطان الأطرش في الثورة السورية الكبرى عام 1925، تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”.
– لم تتوقف المظاهرات في السويداء رغم محدوديتها ورغم السخط العام في أوساطها الشعبية من سلطة النظام، لكن غالبية سكانها تخشى الانجرار لعمل عسكري لا يحبذه أبناؤها. وشعارها العام تجلى بمقولة: هنا سوريا هنا السويداء، ما يعني أن الشارع الشعبي يرفض السلطة القائمة ولا يقبل بسلطة بديلة إلا ذات محتوى وطني عام. فهم منفتحون على كل ما يدعم إعادة بناء الدولة والعقد الاجتماعي الوطني وبوابته التغيير السياسي، دون مغالاة أو فرض هويات دون وطنية ومشاريع سياسية لصالح الدول المتدخلة في سوريا. ويربطون بين الحل السوري العام وحل مشاكلهم المادية والحياتية كما كل السوريين.
السويداء وسكان جبل العرب كمدنيين ومتدينين أصحاب عمق وطني وإن بدت خلافاتهم وتبايناتهم السياسية طافية على السطح، لكن المحافظة مضبوطة وفق إيقاع مجتمعي واضح. فهم إلى اليوم متمسكون بالهوية السورية ويرفضون أية مشاريع انفصالية، أو فئوية أو طائفية. ورغم قلة وضعف الموارد المادية والمشاريع التنموية، وتهميشها المحلي سواء من السلطة أو المعارضة، وتهميشها إقليمياً ودولياً من أية مبادرات اقتصادية أو سياسية، إلا أن مناخها الاجتماعي والديني والمدني المعتدل لازال متعلقاً بالهوية الوطنية، والتعاقد المجتمعي السلمي، وقابل لأن يشكل بيئة سياسية تحترم الاختلاف الفكري والديني والسياسي، خاصة في مسار السلام والاستقرار وحوار الأديان والحوار الوطني وردم التصدعات التي أصابت الهوية الوطنية. فهل يتمكن أبناء هذه الأقلية من المحافظة على ثوابتهم الاجتماعية وتجنب مخاطر الأجندات السياسية الدولية في المنطقة؟ وماذا لو لم يحدث تغيير وطني وديمقراطي عام في سوريا، ماذا ستكون إجابتهم وقتئذٍ؟ أسئلة شائكة وقادم الأيام ليس ببعيد.