ليلى الغريب ـ دمشق
يترقب السوريون القرارات التي وُصفت بالجريئة، والتي ستطيح بما تبقى من سياسة الدعم، وتلقي مزيداً من فقراء سوريا إلى قعر فقر مدقع جديد.
“توقعوا ذلك في إحدى الليالي”، هكذا قال عضو مجلس الشعب السوري صفوان قربي، قبل أيام، حين كشف في تصريح إذاعي أن اللجنة التي تم تشكيلها في نهاية “الجلسة الاستثنائية” لمجلس الشعب أنهت اجتماعاتها، وشدد على أن “الحكومة تدرس الدخول في خطوات جريئة” بخصوص رفع الدعم، ليكون ملف المحروقات أولاً.
هل تصل إلى الخبز؟
ورغم أن المواد التي ما زالت مشمولة بالدعم، تناقصت سواء في عددها أو في كمياتها، إلا أن كثيراً من الأسر ما زالت تعتمد عليها بشكل كبير، وخاصة الخبز الذي يوزع بحصص أسبوعية تعتمد استهلاك الحد الأدنى للأسرة، ويُعد سعره “المدعوم” حالياً مرتفعاً قياساً بالرواتب، بينما يزيد “سعر التكلفة” المحدد رسمياً عن ذلك السعر بأكثر من 5 أضعاف.
كذلك بالنسبة للمحروقات التي لم تعد الحكومة منذ سنوات توزعها إلا “بالقطارة” وخاصة “مازوت التدفئة”، والغاز الذي تضاعفت أسعاره “المدعومة”، تزامناً مع تباعد فترات الحصول على أسطوانة لتصل أحياناً إلى 3 أشهر.
كل ذلك، كما يقول عدد من السوريين لنورس برس، يجعل الدعم المقدم حالياً في حدوده الدنيا، ولا يغني عن شراء مواد إضافية بسعر السوق، أو “سعر التكلفة” حسب مصطلحات الحكومة.
يقول أحمد حامد وهو اسم مستعار لأحد سكان العاصمة دمشق، لنورث برس، إن كل محاولات “التقتير” في استهلاك حصص السكر والرز لا تغني عن الحاجة إلى شراء كميات إضافية بالسعر غير المدعوم، إذ أن الفترة الفاصلة بين رسالتي استلام المواد صارت تتزايد.
ويبدي “حامد”، تخوفاً من القادم في حال رفع الدعم عن الكميات القليلة أصلاً التي تُقدم للمواطن، وخاصة الخبز، ويقول: “لم نعد نعرف طعم الفواكه أو اللحوم منذ سنوات، فهل ستتجرأ الحكومة على حرماننا من الخبز أيضاً؟
ويضيف أن كل ما تقوله الحكومة كمبررات لرفع الدعم “غير صحيحة”، فطالما بقيت الرواتب على حالها، بل وحتى لو رفعوها بنسب تقل عن 500 في المئة، فإن أي كلام عن الدعم “هو كلام غير صحيح”، و”الحكومة لا تدعم إلا نفسها، لأنها ترفع كل أسعار المواد التي تقدمها، مع ارتفاع الأسعار وتدهور قيمة الليرة، وتبقي على الرواتب كما هي”.
وكلما استبشر عبدالرحمن مصطفى، اسم مستعار لأحد سكان جديدة عرطوز بريف دمشق، خيراً، بقرارات في صالح المواطن، “تفاجئنا الحكومة بمزيد من التعسف ضدنا”، يقول لنورث برس.
ويضيف: “اعتقدنا أن مجلس الشعب سيتدخل في الجلسة الاستثنائية، والبعض اعتقد أنه سيحجب الثقة عن الحكومة، لكن ما حدث ليس فقط أنه لم يفعل ذلك، بل كان من نتائج تلك الجلسة رفع الدعم عن القليل الذي يقدمونه لنا”.
مجلس الشعب.. دور تكميلي
جلسة المجلس الاستثنائية، ورغم ما سبقها من تفاؤل، لم ينتج عنها أي إجراءات “إصلاحية”، وكل ما خرجت به كان تشكيل لجنة مشتركة من المجلس والحكومة لدراسة ملف الدعم، وذلك بعدما تحدث رئيس مجلس الوزراء حسين عرنوس، في كلمة طويلة، عن الأعباء التي تتحملها حكومته، وعما تواجهه من تحديات، ليخلص إلى نتيجة تقول إنه لا بد من التوجه نحو “خيار عملي وواقعي”، بشأن سياسة الدعم.
تلك الجلسة كانت تهدف إلى تهيئة السوريين، لإعطاء “الصدمة” على مراحل، كما قال عضو المجلس صفوان قربي، الذي أشار بوضوح في التصريح الإذاعي، أن “دور المجلس كان مكملاً، وأن الجلسة كانت نوعاً من الإخراج غير المعد بعناية بهذا الشأن”.
وقال: “توقعوا أن يكون هناك صخب وضجر شعبي فكان هذا الموضوع عبارة عن تهيئة إعطاء الصدمة على مراحل”.
“قربي” الذي أعلن أن “الحكومة تدرس الدخول في خطوات جريئة” بخصوص الدعم، قال إنها كانت تبحث عمن “يحمل معها بعض الانتقاد، أو اللوم أو العتب أو الصراخ، وكان مجلس الشعب هو المتنفس والمدخل”.
وشدد “قربي” على أن “المخرجات كانت جاهزة قبل اجتماع المجلس، وأن القرارات الحكومية كرؤى كانت جاهزة”.
قال “قربي” إن “اللجنة أنهت اجتماعاتها من يومين، والقرارات اليوم في ميزان الحكومة التي ستختار التوقيت المناسب لإخراج هذه القرارات إلى العلن”.
وأشار إلى أن “ملف المحروقات سيكون أولاً”. وإلى أنه ستكون هناك “تعديلات مقبولة” على الرواتب.
الدعم.. أقل من دولارين
تصريحات “قربي” أثارت جدلاً، وتخوفاً في البلاد، وكان لافتاً ما كتبه وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق عمرو سالم، عبر صفحته في “فيسبوك”، حول الموضوع، إذ رد على من يشككون بما تعلنه الحكومة من أرقام حول حجم الدعم ويقولون بأن توزيع تلك المبالغ على العاملين في الدولة سيكفي للقضاء على الفقر.
وقال سالم، إن الأرقام التي قدمها عرنوس عن حجم الدعم “صحيحة ودقيقة”. وأشار إلى أن هناك 4 ملايين، و200 ألف بطاقة تموينية في سوريا، وأن “حصة الفرد الواحد ستكون ٢٥ ألف ليرة شهرياً، (أقل من دولارين) بما أن وسطي عدد أفراد كل بطاقة هو ٥ أفراد”.
وشدد سالم، أن وزارته ومنذ العام الماضي، قامت بدراسات حول الموضوع ورفعتها إلى اللجنة الاقتصادية ومجلس الوزراء.
أما الخبير المصرفي والاقتصادي عامر شهدا، فكتب رداً على “قربي”، أن أي قرار ستتخذه الحكومة فمجلس الشعب إضافة إلى الحكومة “مسؤولان عنه”، وأضاف أن “25% من الدعم يسرق، و٧٥% من الدعم هو هدر بقرار حكومي”.
وقال شهدا: “موضوع أن الحكومة بحثت الدعم بشكل عميق أمر مشكوك فيه، فمن هي الجهة في الحكومة التي تؤكد عدد السكان، والذي على أساسه تحسب الاحتياجات؟ أعطونا عدد سكان حقيقي، لتكشف الخفايا بالكامل”.
استكمال لسيناريو قديم
يقول باحث اقتصادي لنورث برس، إن سياسة رفع الدعم ليست وليدة اليوم، بل هي بدأت منذ ما قبل الأزمة في البلاد، وأشار في هذا الصدد، إلى المناقشات التي تم تداولها في البلاد في تلك الفترة والكلام الذي رافقها حول الاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي، وسياسة الخصخصة التي اتخذت أشكالاً عدة في سوريا.
ويوضح أن الحكومة ومنذ تلك السنوات بدأت تقلص حجم الإنفاق العام سواء الذي طال البنى التحتية في البلاد، أو الاتجاه نحو تقليص خدمات الرعاية الصحية والتعليم، وإدخال نوع من الخصخصة حتى ضمن مؤسسات القطاع العام الصحية والتعليمية، ثم الرفع التدريجي لأسعار الطاقة وحتى الخبز.
أما اليوم، فإن سياسة الحكومة في ذلك صارت أسرع وأكثر وضوحاً، والواقع أنها وخاصة في السنوات الأخيرة تخلت عن واجباتها الأساسية في تأمين شبكة حماية اجتماعية تحمي الفقراء الذين يتزايد عددهم حتى شمل 90% من السوريين، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
وما بين الأمس واليوم، يقول الباحث، إن الحكومة لا تجهد نفسها اليوم حتى بتقديم مبررات منطقية واقتصادية لتلك الخطوات، فالكلام الذي ما زال يتردد عن أهمية “إعادة توزيع الدعم ليصل إلى مستحقيه” يترافق عملياً مع سحب ذلك الدعم حتى من مستحقيه.
كما أن الكلام عن الآثار السلبية لسحب ما تبقى من دعم، يكاد يكون غائباً عن التصريحات الرسمية أو الإعلام الرسمي، “فهل حقاً يمكن اختصار المسألة بسحب الكتلة المخصصة للدعم (وهي تعادل 27.5 مليار ليرة حسب تصريحات عرنوس)، وإضافتها إلى الرواتب لتكون الأمور متوازنة؟
يجيب الباحث بالقول، إن “البلاد ستشهد زيادات متلاحقة في الأسعار، بشكل مباشر ناتج عن رفع الدعم عن السلع، ثم غير مباشر، بتأثير ارتفاع تكاليف الإنتاج، وهي نسب ستكون قادرة على امتصاص أي زيادة في الرواتب”.
ويقدر الباحث نسب ارتفاع الأسعار بما لا يقل عن “50 في المئة وسطياً”، فمن المعروف أن ارتفاع أسعار المحروقات التي من المقرر أن تكون في مقدمة المواد التي سيرفع عنها الدعم، سيؤدي تلقائياً إلى رفع أسعار جميع السلع الأخرى التي يرتبط إنتاجها بالطاقة، وهذا ارتفاع سيضاف إلى ارتفاع السلع ذاتها التي سيرفع عنها الدعم.
ويقول، إن “الحكومة تضع اللمسات الأخيرة على سيناريو بدأته منذ سنوات، ويفضي إلى انسحابها الكامل من دورها الاجتماعي، فلا هي تقدم أجوراً للعاملين، وتريد أن تحقق ربحاً من السلع التي توفرها لهم”.