شكلت قمة حلف الأطلسي في فيلنيوس الشهر الماضي، منعطفاً في سياسة تركيا، وعلاقاتها بكل من روسيا والولايات المتحدة، إذ بدت تركيا وكأنها تعود تدريجياً للتماهي مع سياسة الأطلسي تجاه روسيا، بعد أن حاولت اتباع سياسة “وسطية” في الموقف من الحرب الروسية – الأوكرانية.
أردوغان الذي اختلفت حساباته بعد فوزه في الانتخابات، فاجأ صديقه بوتين بسلسلة مواقف برزت مؤخراً، بدأت مع دعوته إلى ضم أوكرانيا إلى الأطلسي، وإطلاق سراح قادة كتيبة آزوف خلافاً لاتفاقه مع بوتين، ومن ثم الموافقة على ضم السويد للأطلسي، وصولاً إلى الموافقة على إقامة مصنع للمسيّرات التركية في أوكرانيا، تلك المسيرات التي بدأت تستهدف رموز العاصمة الروسية موسكو، ولعل كل ذلك دفع بالصحافة الروسية، وبعض المسؤولين الروس، إلى وصف المواقف التركية هذه بالعدائية، والإعلان عن وقف اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية عبر تركيا، تلك الاتفاقية التي عظّمت من موقع تركيا في صراع روسيا – أوكرانيا، ومن خلف الأخيرة الغرب.
في مقابل هذا التماهي التركي مع الأطلسي، ثمة حديث عن مرحلة جديدة من العلاقات التركية- الأمريكية، عبر تدوير الخلافات، ونسج تفاهمات، تدور معظمها حول عقد تركيا صفقة لشراء مقاتلات أمريكية إف-16 رغم أن الأمور لم تتضح بعد، والأهم إعادة ترتيب الخرائط في الشرق السوري، من خلال اتفاقات أمريكية – تركية تقوم على إرسال المسلحين التابعين “للجيش الوطني” إلى الممر الممتد من منطقة التنف المعروفة بمنطقة 55 كيلو إلى شرقي الفرات، في إطار الاستراتيجية الأمريكية القديمة – الجديدة التي تستهدف قطع طريق طهران – بيروت عبر بغداد ودمشق، كل ذلك في ظل إرسال الجانب الأمريكي مزيداً من المعدّات والأسلحة والقوات إلى منطقة الشرق الأوسط والخليج والبحر المتوسط، وسط ارتفاع وتيرة الاحتكاكات الأمريكية – الروسية في الأجواء السورية، واتهامات متبادلة بإنتهاج سياسة متهورة ووصول الأمور إلى نقطة خطرة، وكل ذلك يشي باحتمال اندلاع مواجهة كبرى في المنطقة، خاصة أن ذلك يتزامن مع حديث عن تعثر المصالحة السعودية – الإيرانية، وتداعيات ذلك على الساحة اللبنانية الداخلية، وتزايد الحديث عن إمكانية اندلاع حرب جديدة بين إسرائيل وحزب الله.
بوتين الذي يشعر بالضيم من سياسات أردوغان الأخيرة، خاصة بعد أن كان يعتقد أنه بات يحتكم على حصان طراودة داخل حلف الأطلسي، لا يريد خسارة ما كان بين يديه، ولعل الإعلان مجدداً عن لقاء بينه وأردوغان الشهر المقبل في أنقرة بعد أن كان تراجع عن هذا اللقاء، يأتي في سعي منه لصياغة قواعد شراكة جديدة في ضوء هذه المعطيات المستجدة، ولعله يجد في الساحة السورية أفضل مكان لعقد الصفقات والشراكات.
لطالما مثّلت الساحة السورية ما يشبه سلة هدايا لإرضاء أردوغان، أملاً في عدم اصطفاف تركيا إلى جانب الولايات المتحدة في أوكرانيا وسوريا، إلا أن ما سبق لا يعني بالضرورة عدم تلويح موسكو بأوراقها في الساحة السورية، وقد تجلى ذلك بشكل أساسي في عودة المقاتلات الروسية إلى قصف مواقع الجماعات المسلحة المرتبطة بتركيا في شمال غربي سوريا، كما أن التصريحات الروسية السابقة حول عزم الإدارة الأمريكية إقامة “كيان كردي انفصالي” في شمال شرقي سوريا اختفت من على لسان المسؤولين الروس، وهذا مؤشر مهم إلى أن روسيا قد تعيد النظر في أوراق الضغط على الساحة السورية في مواجهة التفاهمات التي تجري بين الجانبين التركي – الأمريكي بخصوص المشهد السوري، وبما يتضمن ذلك انفتاحاً روسياً على قسد في المرحلة المقبلة في إطار حسابات صراع القوى الدولية والإقليمية على الساحة السورية، فيما قد تجد قسد في هذا المعطى الجديد ورقة لتحصين نفسها، والبناء عليها في مواجهة معادلة خلط الأوراق الجارية.
في الواقع، شكل الخلاف الأمريكي – التركي بشأن الدعم الأمريكي لقسد عاملاً لتقارب تركيا مع روسيا، ومن ثم ولادة مساري أستانا وسوتشي، وعليه فإن دخول العلاقات الروسية – التركية في مرحلة فتور وإشكاليات، مقابل تقدم تفاهمات أمريكية – تركية في سوريا، قد يغيّر من السياقات التي تشكلت، ويطرح رهانات جديدة في معركة التحالفات، والأهداف المرتجاة منها، وهو ما قد يعيد الملف السوري إلى أولويات السياسة الدولية في المرحلة المقبلة بعد سنوات من حالة الستاتيكو (السكون).
الثابت أن العلاقات التركية – الروسية بعد قمة فيلنيوس دخلت مرحلة اختبار هو الأصعب، والثابت أيضاً أن بوتين الغارق في حربه ضد أوكرانيا بدأ يشعر بأن رهانه على أردوغان لم يكن صحيحاً، وأن الهدايا التي قُدمت له في سوريا قد تتحول إلى قنابل تتفجر على طول الحدود السورية – التركية، فيما أردوغان العاجز عن وقف تدهور قيمة ليرته أمام الدولار لا يجد خارج قبضة البيت الأبيض أفقاً لمنع انهيار كامل لليرة وسقوطها على رأسه في الداخل، فيما الغرب الذي كان ينتظر سقوطه في الانتخابات لا يجد بعد فوزه سوى التعامل معه كأمر واقع، واستمالته واستثماره في الصراع مع روسيا في أوكرانيا.
الامتحان الحقيقي لكل ما سبق سيظهر خلال قمة بوتين – أردوغان المقبلة، وهل ستكون قمة لإعادة صوغ شراكة جديدة بينهما؟ أم أن تماهي أردوغان مع الأطلسي وصل إلى مرحلة يصعب فيها على بوتين تقديم هدايا أخرى لأردوغان، والإعلان عن أن اللعبة في سوريا انتهت، خاصة أن لا شيء يوحي بلقاء قريب بين أردوغان والأسد في ظل تباعد مواقفهما، وصوت السلاح الذي يشتد في إدلب.