في اليوم التاسع والعشرين من الشهر الماضي صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن “روسيا لاتريد صداماً عسكرياً مباشراً مع الولايات المتحدة في سوريا….لكن القوات الروسية جاهزة دائماً لأي سيناريو”.
يأتي هذا التصريح بعد عشرة أشهر من وقف التنسيق الروسي- الأميركي لمنع التضارب أو الاحتكاك بينهما في الأجواء السورية، وبعد حالات احتكاك جوية بين الروس والأميركان منذ نيسان/إبريل 2022 بلغت حتى نهاية الشهر الماضي ثلاث عشر حالة منها خمسة في تموز/يوليو، هذا مع تسجيل أن تحليق الطيران الروسي فوق القاعدة العسكرية الأميركية في التنف، على الحدود الثلاثية السورية- الأردنية- العراقية، قد بدأ لأول مرة في آذار/مارس الماضي، ولم يكن هناك سابقة لهذا التحليق منذ إنشاء تلك القاعدة في صيف 2016.
لايمكن القول هنا بأن المسألة سورية، أو تتعلق بالساحة السورية، بل على الأرجح – إن لم نقل بالتأكيد – أن هذا التجابه أوالتسخين هو انعكاس على الأرض السورية لتجابه عالمي بين واشنطن وموسكو بدأ في عالم ما بعد يوم 24 شباط/فبراير2022 مع الغزو الروسي لأوكرانية، حيث أطلق ذلك الغزو تجابهاً اصطفافياً عالمياً بين معسكرين: معسكر حلف الأطلسي – اليابان- كوريا الجنوبية- أستراليا ضد معسكر صيني- روسي- إيراني، وأكثر ساحات ذلك التجابه الاصطفافي اشتعالاً في الوقت الحاضر وعلى مدى عام ونصف هي الساحة الأوكرانية، عندما تحصل حرب لذلك المعسكر بوكالة أوكرانية ضد المعسكر الصيني – الروسي – الإيراني، وهناك مؤشرات على اشتراك عسكري إيراني في تلك الحرب من خلال مسيرات من نوع “شاهد” التي استخدمها الروس بكثافة ضد الأوكرانيين، فيما الاشتراك الصيني من خلال الدعم الاقتصادي والتقني للروس.
بل يمكن القول بأن هذا التسخين التجابهي بين موسكو وواشنطن على الساحة السورية لم يكن موجوداً في عالم ما قبل 24 شباط/فبراير2022، بل كان عكسه عندما كان هناك تنسيق سياسي روسي- أميركي بدأ في اتفاق 7 أيار/مايو 2013 في موسكو بين وزيري الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف لتفعيل وتنفيذ بيان جنيف (30 حزيران/يونيو2012) الداعي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي كطريق لحل الأزمة السورية، ثم كانت المحطة الثانية هي اتفاق 14أيلول/سبتمبر2013 بين الوزيرين لنزع السلاح الكيماوي السوري وكانت ترجمته بعد أسبوعين في القرار الدولي 2118 الداعي إلى تطبيق بيان جنيف كاملاً، ثم كانت المحطة الثالثة في القرار2254 الذي أتي بعد شهرين ونصف من الدخول العسكري الروسي إلى سوريا في يوم 30أيلول/سبتمبر2015، وهو القرار الذي انعقد مؤتمر (جنيف3) على أساسه برعاية ثنائية أميركية – روسية من أجل تطبيق القرار 2254 الذي دعا إلى تطبيق بيان جنيف وفصّل الآليات التنفيذية لتطبيقه، وقد أوحت محطة القرار 2254 بأنها تأكيد على موافقة أميركية على الدخول العسكري الروسي في سوريا، وأن التنسيق الأميركي- الروسي عبر 2254 الذي أعقب الدخول العسكري الروسي كان يوحي بالرضا الأميركي .
أيضاً،كان إنشاء قاعدة التنف الأميركية في سوريا ملفتاً، وخاصة الصمت الروسي حولها وكأنها تعبر عن تقاسم نفوذ تكون فيه (قاعدة التنف) بموازاة (قاعدة حميميم) عندما تم بناء الأولى بعد تسعة أشهر من الثانية.
هنا، إذا أردنا تعداد أماكن فعلية للتجابه الروسي- الأميركي فبالتأكيد هناك المثال الأوكراني، ويمكن الحديث عن مثال ثانٍ فعليّ هو السودان ما بعد 15إبريل/نيسان 2023 حيث لم يعد خافياً الاشتراك الروسي، عبر (شركة فاغنر)، في دعم (قوات الدعم السريع) وهناك دلائل ملموسة على أن (فاغنر)، وعبر حدود جمهورية إفريقيا الوسطى مع إقليم دارفور، قد زودت تلك القوات بمضادات الطيران وأسلحة متنوعة متقدمة وهو ما أنشأ توازناً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع جعل معركة العاصمة المثلثة: الخرطوم- الخرطوم بحري- أم درمان غير قابلة للحسم، ولايخفى هنا الميل الأميركي نحو دعم الفريق عبد الفتاح البرهان في المعركة ضد (قوات الدعم السريع) الدائرة في الأربعة أشهر الماضية. يمكن هنا الحديث عن أماكن أخرى يجري بها تجابه فعلي بين موسكو وواشنطن في إفريقيا، مثل مالي وبوركينا فاسو ومؤخراً النيجر، حيث حصلت انقلابات بالسنوات الثلاث الأخيرة لم يكن الدور (أو الدعم ) الروسي خافياً فيها، ويبدو أن الولايات المتحدة ستقوم مع فرنسا بما قامت به في إيران 1953مع بريطانيا عندما خلفت نفوذها في طهران وجعلته من الماضي من خلال تغيير بالقوة فرضته عبر انقلاب ضد حكومة محمد مصدق الإيرانية كان من تدبير الاستخبارات المركزية الأميركية، وواشنطن الآن ستقوم بهذا السيناريو ليس عبر جنرال محلي، كما فعلوا عبر الجنرال زاهدي ضد مصدق، بل عبر استخدام قوات (المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا- الايكواس) بقيادة نيجريا من أجل القضاء على حكم الانقلابيين الجدد في النيجر ثم سيتثنى ويتثلث في مالي أو بوركينا فاسو حيث العسكر الانقلابيون في البلدين لم يخفوا ميولهم الروسية، وكان ملفتاً في القمة الإفريقية- الروسية الأخيرة بموسكو أن يخصص بوتين لقاءً خاصاً مع رئيس المجلس العسكري الإنقلابي في بوركينا فاسو الكابتن إبراهيم تراوري تحت أضواء الكاميرات التلفزيونية. والروس من خلال (فاغنر)، التي هي مثل (فيلق القدس) عند الإيرانيين بمثابة ذراع غير رسمية، يتواجدون الآن في شريط مالي – بوركينا فاسو- النيجر الذي يقطعه الحاجز التشادي الموالي للفرنسيين عن شريط جمهورية إفريقيا الوسطى- دارفور وكردفان والخرطوم قوات الدعم السريع. النشاط الروسي ليس مخفياً في بلدان مثل غينيا كوناكري وغانا وجمهورية إفريقيا الوسطى وإلى حد”ما” في السنغال وتشاد حيث مازالت السلطات في البلدين موالية لباريس، عندما يتم اللعب على الصراعات الداخلية المحلية وعلى مزاج معادي للسيطرة الأوروبية وخاصة الفرنسية، وعلى مزاج إنقلابي شبيه بما شهدته بلدان عربية في الخمسينيات يحمل عداءً للغرب ونزعة نحو نزع الهيمنة الخارجية وطموحاً لتغييرات اقتصادية- اجتماعية. في هذا التواجد العسكري الروسي غير المباشر، عبر (فاغنر)، يكون يورانيوم وذهب النيجر ودارفور نصب أعين الكرملين، طبعاً غير النواحي السياسية، فيما الصينيون هم لاعب اقتصادي كبير في القارة السمراء، التي هناك الكثير من الدراسات بأنها ستكون المصدر الرئيسي للغذاء العالمي، في ظل تدهور الزراعة بفعل التغير المناخي في قارات أخرى، وخزان المناجم العالمي في المستقبل.
هناك أماكن محتملة للتجابه الروسي – الأميركي، ولو بأشكال غير مباشرة، من خلال الصراع الأرمني- الأذربيجاني حول اقليم ناغورنو كاراباخ، وخاصة مع بدء انزياح أردوغان نحو واشنطن بعيداً عن موسكو بعد صفقته الأخيرة مع الأميركان بشأن رفع الفيتو التركي عن دخول السويد إلى حلف الأطلسي، حيث يلاحظ بعد ثلاث سنوات من اتفاق التهدئة، الذي رعاه بوتين وأردوغان بين يريفان وباكو، كيف تغلي الأمور هناك عبر التباعد التركي- الروسي ومع التوتر الأذربيجاني مع موسكو وطهران. أو من خلال الصراع المنسي بين الحكومة المولدافية والأقلية الروسية ونزعاتها الانفصالية في إقليم (ترانس – نيستريا) شرق مولدافيا تشبه نزعات الأقلية الروسية في إقليم دونباس بشرق أوكرانيا، والتي استخدمت فتيلاً لأزمة 2014 ولحرب 2022 في أوكرانيا، وهناك جنود روس هناك منذ توترات فترة التسعينيات، فيما الحكومة المولدافية ترتمي في أحضان الغرب الأميركي- الأوروبي، وخاصة مع اقتراب لهيب الحرب الأوكرانية من الأراضي المولدافية.
كتكثيف: المجابهة الروسية – الأميركية، الفعلية والمحتملة، هي جزء من ترجمات انقسام عالمي جديد بين معسكرين، يولد حرباً عالمية رابعة، بعد الحربين العالميتين، والحرب الباردة، وثلاثتهم كانت فيهم الساحة العالمية ساحة التجابه. الآن العالم هو ساحة مجابهة، بعض بقعه ساخنة وملتهبة، وبعضها مرشح للتسخين والالتهاب مثل تايوان بين الصين والولايات المتحدة، أو سوريا كما يوحي تصريح بوتين، أو المنطقة الممتدة بين أفغانستان والبحر المتوسط حيث تتواجه بأشكال مباشرة أو غير مباشرة واشنطن وطهران، وليس صدفة التعزيزات الأخيرة للتواجد العسكري الأميركي في المنطقة، وهناك تجابه مستمر بين الرياض وطهران حول اليمن (وإلى حد”ما” لبنان) وخاصة بعد عدم استطاعة اتفاق 10آذار/مارس2022 في الصين بين الأيرانيين والسعوديين أن يكون له أية مفاعيل على الأرض، وهو ما يترافق مع عودة دفء “ما” للعلاقات السعودية- الأميركية في الأسابيع الماضية.