انهيار اقتصادي والراتب لا يكفي للطعام.. ما الذي بقي للسوريين غير بيع أثاث منازلهم؟
ليلى الغريب ـ دمشق
ربما لا يملك أحد إجابة واقعية عن السؤال المحير: كيف تستطيع أسرة سورية أن تؤمن متطلبات الاستمرار في الحياة، إذا كان راتب الموظف لا يكفي لشراء أكثر من “سندويشة فلافل” واحدة في اليوم؟!
كيف يمكن إعالة طفل واحد بأقل من 13 دولاراً في الشهر؟ وهو مبلغ يجب أن يكفي أيضاً لتسديد فواتير الهاتف والكهرباء والمياه، وكلها خدمات رفعت الحكومة قيمها بعد تردي سعر صرف العملة المحلية، بينما حافظت على الأجور التي تقدمها للعاملين.
“بداعي الطفر”
في واقع الانهيار الاقتصادي شبه الشامل الذي تعيشه البلاد، صار مألوفاً أن تجد من يعرض أثاث بيته، وثيابه، وكل ما يمكن أن يكون له ثمن مقابل دخل إضافي يكفي لتأمين متطلبات الحياة الضرورية.
وبدلاً من عبارة “بداعي السفر” التي كان يستخدمها من يريد بيع منزله أو أثاثه، صار البعض يستخدمون عبارة “بداعي الطفر” قبل أن يعرضوا بعض ما يملكون للبيع: مكواة قديمة، أو ألبسة شخصية، أو مدفأة صار تشغيلها مكلفاً.
وكما أن للفقراء ألبسة مستعملة، وأدوات مستعملة، فإن لأولادهم أيضاً ما هو مستعمل، الأطفال لهم ألعاب مستعملة، وقد صارت إعلانات بيع ألعاب الأطفال تتزايد، وبين تلك الألعاب ما لم يكن أبداً يباع في السابق، كالمكعبات البلاستيكية الصغيرة.
أما الطلاب في المرحلة الثانوية فلهم الكتب المستعملة، وقد عادت ظاهرة بيع الكتب المدرسية للظهور في سوريا بعدما رفعت وزارة التربية أسعار الكتب، وصارت لا توزع كتباً جديدة في مرحلة التعليم الأساسي إلا ضمن حدود ضيقة.
أحد سائقي “التكسي” يقول لنورث برس، إنه يتقاسم دخل السيارة مع مالكها وهو أحد أقربائه، ولولا ذلك لكان دفع أولاده إلى الشارع كي يعملوا، فالراتب الذي يتقاضاه، وهو بحدود 130 ألف ليرة، لا يكفي حتى للطعام، ويوضح أنه يعمل مدرساً للغة الإنكليزية.
“غير مفهوم، غريب”، كلمات يكررها وهو يتحدث عن تلك المفارقة التي جعلت راتب شهر كامل لا يكفي حتى لسندويشة فلافل في اليوم، ويضيف: “نسينا اللحوم، والملابس الجديدة، فتأمين الطعام هو الأولوية الآن”.
يصمت قليلاً ثم يقول: أنا وجدت عملاً آخر ورغم ذلك بالكاد أقدر على تأمين الاحتياجات الأساسية، فكيف حال أولئك الذين لا يجدون عملاً آخر، أو ليس لديهم مصدر آخر؟
تحت خط “الفقر المدقع”
يقول باحث اقتصادي لنورث برس، إن الأمم المتحدة حددت خط “الفقر المدقع” بأقل من دولار و25 سنتاً في اليوم، وهذا يعني أن العاملين بأجر في سوريا يقعون في قعر تحت مستوى خط الفقر المدقع وبأكثر من الضعف، إذ لا يتجاوز الدخل في أفضل الأجور نصف دولار في اليوم.
ويضيف أن الإحصاءات الأممية تقول إن 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأن اقتصاد البلاد وصل إلى مرحلة من الانهيار الشامل التي تنسحب فيها الحكومة من مسؤولياتها وتترك الناس يواجهون مصيرهم.
تضخم غير مسبوق في تاريخ البلاد، وأجور تكاد تعادل الصفر، وهي حالة تجعل الجوع الحقيقي يهدد كل من ليس لديه عمل ثان، أو لا يتلقى شيئاً من التحويلات الخارجية، أو لا يجد منفذاً لدخل غير مشروع.
إن أقسى ما يمر به البلد هو ليس فقط انسحاب الحكومة، وكل مؤسسات الدولة، من مسؤولياتها تجاه المواطن، بل تحولها إلى أسوأ أنواع التجار، وهو ذاك الذي لا يهتم ولا يريد أن يعرف شيئاً عن أوضاع “الزبائن” فكل ما يهمه أموالهم فقط، بحسب الباحث.
وهكذا نجد الأسعار في صالات “التدخل الإيجابي” أعلى من مثيلاتها في السوق غالباً، كما أن تلك الحكومة رفعت أجور خدماتها وهي تدرك أن ذلك أصبح فوق طاقة جميع العاملين بأجر، بل أكثر من ذلك، تمادت في فرض إجراءات قطع الخدمات عمن لا يلتزم بالدفع، إذ قلصت فترة السماح في تسديد الفواتير، ولا تتردد في قطع الخدمة حين تنقضي المهلة، وهو على الأقل ما لم يكن يحدث سابقاً.
ويضيف الباحث: “لذلك لن يكون أمام الناس إلا أن يبيعوا أثاث منازلهم، وحتى ملابسهم، كي يستمروا في الحياة”. ويقول بنوع من السخرية: “لقد حققت الحكومة هدفاً اقتصادياً ما زالت الدول المتطورة تسعى إليه، وهو الاقتصاد الدائري الذي تحاول المؤسسات الحكومية فيه أن تقلص الهدر إلى أقصى حد، كما تعتمد على إعادة الاستفادة من جميع المخلفات الناتجة عن عملية الإنتاج”.
واليوم يعيش السوريون ذلك في الواقع، لم تعد عظام الخروف أو العجل فقط لها ثمن ولها من يشتريها، بل حتى عظام الفروج صار لها ثمن.
ما نشهده اليوم، يقول الباحث، يتعدى أي تفكير اقتصادي سليم، فنحن لا نلمس أي مبادرة مهما كانت متواضعة لتحسين أحوال الناس، وطبعاً لا أحد يطالب بحلول عبقرية، فهذا ما أثبت الواقع أن أحداً غير معني به.
ويضيف: كنا نقول منذ سنوات إن “خزينة الدولة جيوب رعاياها” ولا نعني به كما يمكن أن يُفهم للوهلة الأولى، بل نعني أن ثراء الدولة يقاس بثراء مواطنيها، أما اليوم فقد عاد للعبارة معناها المباشر، فمؤسسات الدولة تمد يدها إلى جيوب المواطنين، وتتركهم في صراع يومي من أجل البقاء، الذي لا يعني سوى تأمين أبسط متطلبات الحياة (الطعام واللباس).
تضخم ضخم
الباحثة الاقتصادية رشا سيروب قالت في تصريح لصحيفة محلية إن معدل التضخم ارتفع خلال سنوات الأزمة وحتى العام الجاري ليبلغ أكثر من 16137 في المئة، أي أن الأسعار زادت 161 ضعفاً عما كانت عليه عام 2011، مقابل زيادة الأجور بمعدل 10 أضعاف عما كانت عليه بداية الأزمة، ليبقى أقل بكثير من الارتفاع الذي طرأ على الأسعار.
وتصف “سيروب” التضخم الذي شهدته البلاد بأنه “ضخم”، وأشارت إلى أن أكثر السلع التي شهدت ارتفاعاً في الأسعار هي “السلع الغذائية والمشروبات غير الكحولية، والنقد ومصاريف السكن والكهرباء والمياه وخلاف ذلك من المواد التي تشكل حوالي 75 بالمئة من حجم إنفاق الأسرة”، وذلك حسب بيانات كان أصدرها المصرف المركزي السوري.