حلب ـ نورث برس
في إحدى الأحياء العشوائية من مدينة حلب، يجلس سبعيني أمام باب منزله المتضرر نتيجة الحرب الدائرة في البلاد لأكثر من عقد، مردداً على مسمع المارة كلمات تقول: “اهربوا من هذه البلاد، لقد انتهينا، لقد أصبحنا أرخص شيء هنا”.
تسود مشاهد العوز والفقر المدينة التي كانت قبل الحرب السورية عاصمة الصناعة، ولكن الشلل الاقتصادي والافتقار لأدنى الخدمات المعيشية باتا سيد المشهد.
بعيداً عن مظاهر الترف المحصورة في أماكن مخصصة في وسط المدينة والتي تسلط وسائل الإعلام الحكومية الأضواء عليها، استطلعت نورث برس الوضع المعيشي للسكان بعد الانهيار الحاد لقيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي.
وخلال الأسبوعين الأخيرين من الشهر الفائت، تجاوز سعر صرف الدولار الواحد مقابل الليرة السورية الـ 13 ألف ليرة، في ارتفاع كان الأكبر منذ بداية الحرب، ليخلق ذلك حالة يأس جماعي بين السكان.
كما تم رصد ظاهرة هجرة غير مسبوقة لسكان المدينة، بسبب سوء الأوضاع المعيشية، وانعدام أدنى مقومات العيش.
تقاسم المعاناة
يوسف يملك مطعماً للوجبات السريعة في المدينة يقول لنورث برس: “لقد تدهور وضعنا لا نستطيع رفع الأسعار أكثر، فلا قدرة للناس على الشراء، وبالمقابل لا أستطيع الإبقاء على الأسعار القديمة، لأن العملة المحلية فقدت قيمتها بالفعل”.
يفضل يوسف محمد، (اسم مستعار)، إغلاق مصدر رزقه الوحيد بعد أن باتت آماله بتحسن الأوضاع الاقتصادية “معدومة بالكامل ولا شيء غير الخسارة”.
أحمد علي يقاسم “محمد” المعاناة نفسها، إذ اضطر مؤخراً لإيقاف مصنعه الصغير المخصص لصناعة الألبسة بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج مقارنة بالسابق.
يقول “علي” لنورث برس: “فكرت ملياً قبل إغلاق المصنع، يعمل لدي أكثر من 60 شخصاً، هؤلاء لديهم عوائل وقد توقف مصدر رزقهم الوحيد، ولكنني لا أستطيع الاستمرار، الأمر بالنسبة للصناعيين أمثالنا بمثابة انتحار”.
ويشير أن تكلفة إنتاج قطعة واحدة من البنطال كانت تصل لـ 7 دولار، ولكن بعد ارتفاع الدولار تجاوزت الـ10 دولارات، “هذا غير تكاليف النقل وفضلاً عن الضرائب التي تفرضها الحكومة إلى أن يصل للمستهلك”.
وفرضت الحكومة سابقاً ضرائب إضافية على مختلف القطاعات، كفرض رسوم سنوية وشهرية جديدة للعديد من الخدمات، منها العقارات ووسائل النقل ورسوم المرفأ، واقتناء الكلاب الخاصة، وغيرها.
وأدى فرض الضرائب على التجار في القطاعات المختلفة إلى زيادة تكاليف الإنتاج، التي أثرت بشكلٍ تلقائي على المستهلكين.
عملة ميتة
بخلاف مناطق سيطرة المعارضة التي تتعامل بالليرة التركية ومناطق الإدارة الذاتية التي أقرت تحديد أجور العاملين معها بالعملة الصعبة (الدولار الأمريكي)، تتأثر السوق المحلية في مناطق سيطرة الحكومة بانعدام الاستقرار بسبب اعتماد العملة السورية “المنهارة”.
وتحظر الأخيرة تداول العملة الصعبة وتخزينها كنوع من بلوغ الاستقرار المالي وتفرض المحكمة الاقتصادية التابعة لها عقوبة السجن، تصل لـ 7 سنوات، على المتهمين بحمل العملات الصعبة والتعامل فيها.
علاوة على فرضها لضرائب “باهظة” على أصحاب المهن والمشاريع الصغيرة.
دفعت هذه الإجراءات الصارمة مصطفى محمود وهو صاحب مصنع بطاريات حاصل على شهادة “الإيزو” للجودة، على بيع منتجات مصنعه بأقل من تكلفة الإنتاج واتخاذ قرار الهجرة من البلاد.
يقول “محمود”، باللهجة العامية: “الميت ما بيشيل ميت(..)” في إشارة منه لليرة السورية وانعدام الاستقرار في سعر صرفها.
وخسر الرجل في أقل من شهرين 42 ألف دولار أمريكي، بسبب تثبيت مبيعات مصنعه بالليرة السورية وتراكم الديون اللاحقة الدفع في الأسواق، لعجزه عن بيع منتجاته بالعملة الصعبة.
فرار وهجرة
يشير عثمان أحمد وهو اسم مستعار لصاحب شركة تعمل في مجال السياحة والسفر، أن أعداد الراغبين بالهجرة زادت أضعافاً خلال الأشهر القليلة الماضية.
ويضيف لنورث برس: “الأوضاع الاقتصادية متدهورة، من يستطيع الهجرة لا يبقى هنا، الأوضاع تتجه نحو الأسوأ”.
ويرى أن رغبة رؤوس الأموال بالهجرة “غير مسبوقة” في ظل انعدام الاستقرار وإجراءات الحكومة “غير السليمة”.
وخلال شهرين قامت الشركة بالحصول على تأشيرة السفر لنحو 60 شخصاً إلى مدينة أربيل في إقليم كردستان العراق، بحسب “أحمد”.
وتكلفة الحصول على جواز وتأشيرة السفر 14 مليون ليرة، ما يعادل 1200 دولار أمريكي، بسعر الصرف 12 ألف ليرة مقابل الدولار.