في دمشق.. “نبش القمامة” مهنة للبحث عن مصادر الرزق
ليلى الغريب ـ دمشق
تتسع ظاهرة “نبش القمامة” في سوريا، مع تزايد حالة الفقر المدقع في البلاد التي تعرض فيها جيل كامل من الأطفال لكل ما يهدد مستقبلهم من الحرمان من التعليم، إلى الانخراط في أعمال خطيرة، والاستغلال، في سبيل ما يؤمن قوت اليوم.
وهكذا لم تعد مشاهد الأطفال الذين يبحثون في القمامة متفرقة، ومتواترة، بل صار ممكناً أن ترى أولئك قرب، أو داخل، كل حاوية وفي كل شارع، مع تحول تلك الظاهرة إلى “مهنة”.
“لاحقين العالم ع الحاوية؟!”
لا أحد من الأطفال يرغب في التحدث، بل إنهم يتوجسون من أي شخص يقترب منهم، ليس فقط بدافع الشعور بالخجل من تلك المهنة، بل لأن دوريات المحافظة تلاحقهم، “كل يوم عنا مغامرة مع الشرطة” يقول أحد الأطفال لنورث برس، وهو يمشي بسرعة كأنه يهرب، قبل أن يتأكد أن لا خطورة عليه في التحدث.
يقول: “نمت يوماً عند الشرطة، أنا ورفيقي”، قبل أن يأتي والده ويخرجنا، ويتساءل: “ما بعرف شو بدهم فينا، شو عم نعمل بيضرهم؟ نحنا عم نضر حالنا.. يتركونا، لاحقين العالم ع الحاوية؟!”.
ويجمع الطفل ما يجده في الحاويات مما يمكن أن يعاد تدويره، مثل الكرتون، والبلاستيك، أو أي شيء آخر يمكن أن يكون له فائدة ما، ويبيع ما يجده إلى تاجر لديه محل قريب من مكب النفايات في منطقة الزبلطاني.
ينضم زميله في العمل إلى الحديث، ويقول إن البحث في القمامة الموجودة في المكب أكثر جدوى، لأن الكميات هناك أكبر، أما هنا فنحن نتعب كثيراً للحصول على شيء قد تكون له قيمة، ويجب أن نحمله في أكياس على ظهورنا لمسافات طويلة.
ويوضح أن هناك من يعتمد على “عربايات” صغيرة، أو حتى سيارات للمسؤولين عن تشغيل بعض الأطفال في تلك المهنة، لكن البلدية تقوم بمصادرة تلك الأدوات كلما عثرت عليها، كما تصادر ما يجمعونه من عبوات أو مواد بلاستيكية.
قبل أن يقرر ترك المدرسة كان يذهب في رحلة نبش القمامة بعد دوامه، فشل في النجاح في الصف التاسع، وقرر أن يترك الدراسة.
يقول لنورث برس: “جربت كل شي، ما تركت معمل أو شارع أو مطعم يقبلني اشتغل إلا رحت، حتى دلني رفيقي على هالشغلة”، يبتسم ويتابع: “منيحة وما بدها رأسمال، بس شوية تعب”، ثم يشير إلى ملابسه المتسخة “وزبالة”!.
مصادرة وغرامة
القانون رقم 49 لعام 2004، المتعلق “بشؤون النظافة العامة والمحافظة على المظهر الجمالي للمدينة”، يحظر “نبش النفايات في الحاويات وسلال المحال وأماكن تجمعها”، ويفرض غرامة تتراوح بين ألف إلى 3 آلاف ليرة عقوبة لذلك.
ووفقا لذلك القانون، تقوم دوريات من المحافظات بملاحقة من يقومون بنبش الحاويات، ويخولهم القانون أيضاً مصادرة أية معدات أو أدوات تُستخدم في ذلك، سواء من قبل الأطفال أو ممن يقومون بتشغيلهم في تلك المهنة.
يقول مصدر في محافظة دمشق، لنورث برس، إن القانون يعود لعام 2004، وكانت ظروف البلاد وقتها مختلفة كلياً عن الوضع الراهن، رغم أن ظاهرة نابشي القمامة كانت موجودة دوماً، إلا أنها لم تكن بذلك الاتساع، ولذلك فقد تعامل القانون مع الظاهرة من زاوية أنها تؤثر على المظهر الجمالي للمدن، كما أن لها آثاراً نفسية واجتماعية كبيرة على من يمارسها، وبالتالي فإن القانون لم ينظر إلى تلك الظاهرة يوماً على أنها “مهنة”.
ويشير المصدر إلى أنه ضمن مهام البلديات تطبيق القوانين التي تقع في نطاق عملها، ولذلك تقوم مجالس المدن بتسيير دوريات للقيام بحملات على من يقومون بذلك الفعل.
وتم فعلاً مصادرة سيارات وعربات نقل صغيرة إضافة إلى مواد أخرى، لأن كل ذلك يقع خارج نطاق القانون، تُضاف إلى ذلك مخالفة أخرى هي استغلال الأطفال في تلك الظاهرة، فمعظم الذين يقومون بنبش الحاويات هم من الأعمار ما دون الـ 17 عاماً، وغالباً ما يكون مجموعة من هؤلاء يعملون لصالح تاجر، يتفق معهم على شراء ما يجمعونه، مقابل مبلغ مالي قد لا يتجاوز 15 ألف ليرة يومياً.
ويشير أيضا إلى وجود مراكز لتدوير النفايات، وبعضها يكون قريباً من محيط مكب القمامة الرئيسي، ولأن ذلك مخالف للقانون تقوم المحافظة بحملات متتالية على تلك المراكز، بمؤازرة من وزارة الداخلية، ويتم تحويل المقبوض عليهم إلى القضاء المختص.
ويقدر المصدر حجم النفايات في المحافظة بنحو 2500 إلى 3 آلاف طن يومياً، ويوضح أن محافظتي دمشق، وريف دمشق، تعملان معاً في هذا الملف، وأن من أسباب تكثيف الدوريات “الالتزام بعقد مع متعهد يدير معمل معالجة النفايات الصلبة في منطقة دير الحجر، ويقوم المعمل بإنتاج السماد العضوي من النفايات”.
ويشدد على أن مسؤولية تلك المشكلة يجب أن تتحملها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، لأن فيها جوانب تتعلق بعمالة الأطفال، إضافة إلى استغلالهم لتحقيق الأرباح.
حافة الجوع
ويرى باحث اقتصادي، أن تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلد أوصل كثيرين إلى حافة الجوع، وأمام تلك الكارثة تسقط كثير من “المحرمات”، ومنها العمل في نبش القمامة.
ويضيف الباحث لنورث برس: “هذا الموضوع لا يُحل بالقانون، وهو ليس من اختصاص البلديات، أو وزارة الشؤون الاجتماعية، وليس بالطبع وزارة الداخلية، بل هو أحد أوجه الانعكاس لما جرى في البلد، وما آلت إليه، وبالتالي فإن الحل ليس بالدوريات أو المصادرة أو غيرها، هذه إجراءات لم تعد تجدي شيئاً سوى حرمان الناس من مصادر دخل من أعمال “وسخة” هم ارتضوا أن يعملوا بها، كي لا يقتلهم الجوع”.
ويقول إن الحالة التي تشهدها البلاد من تضخم هائل، وارتفاع غير مسبوق في الأسعار مقابل مستويات دخل هي الأدنى في العالم، جعلت لكل شيء “قيمة” وثمن، وبالتالي ازدادت الحاجة إلى إعادة تدوير المخلفات، إضافة إلى وجود عائلات كاملة صارت تعاني من أجل لقمة خبز بالمعني الحرفي للكلمة.
ويتساءل: “ما هي تلك الأرباح التي يتحدثون عنها ويقولون إن تجار النفايات يحققونها؟! هم يحققون أرباحاً لا شك، فهم يعملون دون رأسمال، يجمعون ما يرميه الناس، وحتى لو عن طريق تشغيل الأطفال، فهؤلاء يعيلون أسراً في هذه الأيام، وحتماً لن يكونوا قادرين في الظروف الاستثنائية أن يتصرفوا بشكل طبيعي”.
بالنهاية هؤلاء لم يجدوا أمامها من “استثمارات” سوى القمامة، وحتماً لن يقبل أحد أن يعمل في قلب “الوسخ” إن توفرت له فرصة عمل أفضل.
ويرى الباحث أن أقصى ما يمكن أن تفعله البلديات اليوم، هو أن تنظم هذه “المهنة”، وهذا جزء من الاعتراف بالواقع وحسن التعامل معه، فلو لم يكن هناك مستهلك نهائي، وتاجر يشتري المواد المعاد تصنيعها ولو بوسائل بدائية، ثم يستخدمها لخفض أسعار سلعة ما، لما وجدت تلك الظاهرة أصلاً.