رزان زين الدين ـ السويداء
بعد حرب العشرة أعوام التي عاشتها البلاد، وما خلفته من انعكاسات طالت جميع جوانب الحياة، ووصلت لأروقة الثقافة التي عاشت صراعاً ممتلئاً بالتفاصيل والأفكار المتناقضة، عقب مرحلة افتقدت فيها الثقافة للحرية والوعي، فتسمت بطابع خاص أدت لتحجيم دور الثقافة والمثقف، اختصرها الشاعر السوري نزار قباني بقوله في قصيدة “قصائد سياسية قصيرة”، “الكاتب في بلدي يتكلم كل لغات العالم إلا العربية فلدينا لغة مرعبة قد سدوا فيها كل ثقوب الحرية”.
وبين الواقع الحالي وما عاشه المثقف طول السنوات السابقة، ترى الكاتبة إيمان أبو عساف، أنه من الصعوبة إيجاز تعريف للمثقف فالاعتقاد السائد أن المثقف هو من تحصل على شهادة علمية أو اختصاص.
وتستغرب الكاتبة، “اقتصار مفهوم المثقف في مجتمعاتنا على معاير أن المثقف يعني جمع معلومات أو التعلم ولا يعنيها البحث فلا تمييز بين العلم والثقافة ولا أفق لهذه المعرفة”.
وفي ظل ما تعانيه المجتمعات بعيد الحرب، فإن المثقف من الناحية الأكاديمية أو من وجهة نظر النخب والحرية الفكرية يبقى ناقصاً رغم الاجتهاد فيه.
وتلخص الكتابة تعريفاً للمثقف من باب المقاربة بأنه “الذي حرر الفكرة وحفر لها مساراً على أرض الواقع، وهو من يشارك الناس في صنع لحظتهم التاريخية ويكون مسؤولاً حتى النهاية عن موقفه”.
وتقول “أبو عساف” لنورث برس، إن “غياب المثقف والثقافة عن الحدث، خوفاً، سيلقى ذلك حكماً بالطرد الأبدي من ملكوت الذاكرة الجمعية”.

المثقف والقضية السورية
من وجهة نظر الكاتبة فإن الحدث السوري “حدث متفردٌ” في مساره ومشهده وتكوينه، وتتساءل ما فعلت الثقافة قبل وبعد الحدث؟
وتعتبر أن هذا سؤال ملحٌّ ويطرحه الشعب، متهماً المثقف والثقافة، “بالحياد والصمت، أو البطء في ملاحقة الحدث المتسارع والمتغير بما تحمله الساحة المشتعلة من صراعات ثقافية وعقائدية ووجودية لصناع الوعي المزيف”، بحسب ما قالت “أبوعساف”.
وتحمل الكاتبة “الثقافة والمثقف اليوم بعض الأنانية. والتي لا تستقيم مع الفعل الثقافي لأنه فعل تطوري”.
فهو بحسب رأى الكاتبة، “يحتاج إلى عمل جماعي لا تنقصه المكنة والخبرة والمهنية ولا وسائله اللوجستية المتنوعة والتي تناسب الناس والمواقع والمتغيرات”.
تقول “أبو عساف”، إن المثقف قصَّر في خدمة القضية السورية ولم يتم تسجيل مواقف جادة بل مواقف فردية مرات كثيرة، لم تنقل الوقائع كما ينبغي، وتركت المعارضة تتبنى مواقف داعميها ومصالحهم”.
واعتبرت الكاتبة أن “الأشد آلماً أن نرى مثقفاً وثقافة وقعت في أشراك الأيديولوجية التي غيبت الكثير من الحقيقة وأظهرت بعضها مجتزأ من الكل بقصد أو بغير قصد”.
ومن وجهة نظر “أبو عساف”، فإن المثقف والثقافة كانا “سوق استثمار للمحطات الإعلامية ووسائل التواصل، و يتم تصيد أو تشييد مواقف أو حجج اعتماداً على حضور واهن لمثقف وحنكة حوار ومحاججة يقدمها”.
وترى أنه في غير مرات، “تحول الفعل الثقافي إلى فعل رأي ورأي مضاد منافياً لطبيعة الثقافة والمثقف”.
وتشير الكاتبة إلى أن العمل الثقافي في المواقع الأخرى الموازية من منتديات ومبادرات، وبعض المسرح وبعض نوادي التثاقف كان في معظمه “عملاً ارتجالياً مستعجلاً غير صبور ويفتقر إلى المعلومة والوثيقة والبيان والسند، إن كان يخص البحث، وعملاً يفتقر إلى ثقافة إنسانية وقيمية وتنويرية”.
ولما كانت الثقافة فعلاً مستداماً، كان من المهم جداً، بحسب ما قالت الكاتبة، الإعداد المنهجي المستمر والمتصل والمثابر والمكابدة ومحاولة التصدي والتوقف عند انتشار ثقافة التفاهة والرداءة والاحتفاء بها”.
ويلفت نظر الكاتبة، ذلك الاستفزاز الذي مارسته كل من الجهات المتصارعة، عبر تظاهرات “منفعلة ومستفزة”، بحسب ما ذكرت.
وترى أن ما فعلته الثقافة، كان “بعيداً في الظل وفي الأماكن الآمنة وعلى ورق صامت طبع سراً، وكان جزء منه شعر وقصص كررت الممجوج والمرذول والعقائدي”.
وتنوه الكاتبة إلى أن دور المثقف والثقافة، هو “حرث حتى أعماق لانهاية لها تعنى بالإنسان وتنقلنا من حجب ونطاقات الدارج والمتوارثة إلى مقامات البناء والعمار الحضاري”.
الثقافة المجتمعية
تعد الثقافة المجتمعية نتاج محصلة للوعي التراكمي مادتها مستقاة من الواقع المعيشي والتي ترتبط بقضايا الناس وبالتنوع المجتمعي.
ومن وجهة نظر الكاتب فراس المحيثاوي، فإن الظروف السياسية والاقتصادية لعبت دوراً كبيراً في تراجع الوعي التراكمي للمجتمع.
ولكن لا يعقد الكاتب آمالاً على تحسّن الظروف السياسية والاقتصادية لتحسين الوعي الثقافي، إنما يلزم اللجوء إلى حلول أكثر جدوى، بحسب قوله.
ورأى الكاتب في حديث لنورث برس، أن المشهد السوري منذ عام 2011، قدّم معطيات وسياقات لو أجاد المجتمع قراءتها “لردم مساحة كبيرة من هوّة نقص الوعي التراكمي”.
وبحسب قوله، فإن “النظام لن يغير أساليبه في الاستمرار بإفقار المجتمع وتجهيله، أما المجتمع فإن بوسعه مراجعة قراءاته حول المشهد السوري”.
ولعل من مخرجات الحرب السورية زيادة في الثقافة الدينية والتعصب الطائفي على حساب تهميش الفكر الثقافي الحر.
وهذا ما شدد عليه “المحيثاوي”، “فقبيل الحرب كان الفكر الديني مسيطراً إلى حدّ ما وكان الفكر الثقافي الحر مغيّباً بشكل واضح”.
وبحسب قول الكاتب فإن حكم العسكر في الأنظمة الشمولية يلجأ إلى المتعصبين دينيّاً ليضعهم في وجه المفكرين الأحرار والمتنورين.
ويرى “المحيثاوي”، أن “الحرب جعلت الأمر أكثر وضوحاً وبشاعةً، فقد منحت الفرصة لمرتزقة النظام ومخططي الخراب من أعوانه وذيوله ليدعموا سرّاً المتديّنين المقنّعين بالأفكار الدينية، ليعيثوا فساداً في أرواح الناس ولقمة عيشهم وأفكارهم”، على حد تعبير الكاتب.
ويضع الكاتب المثقفين، أمام مسؤوليتهم، ويقول: “لم يكتفِ المثقفون بإدارة ظهورهم والتخلي عن الشعب بل تاجروا بما قدمه الشعب من تضحيات”.
وعبر عن استيائه من المتاجرة بقصص المآسي والأوجاع، وقال: “صار كل شهيد وسيلة ليمرر المثقف أجندته ومن دون أن يدفع الثمن”.
الثقافة الفنية
برز الفن السوري في ثقافة المجتمع، رغم ما عاناه بعيد الحرب السورية إلا أن فن الرسم كان له دور فعال في أن يختصر تاريخ مرحلة وتوجه مجتمع، بما يمتازه من سهولة الوصول إلى جميع شرائح المجتمع.
وفي هذا الصدد، يقول رسام الكاريكاتير فادي الحلبي، إنه رغم حالة التحفظ التي كانت تمثلها السياسة العامة للبلد قبيل الحرب وحالة التمايز المجتمعي أو الطبقي التي كان يعاني منها الفن عموماً، والتي تخضع الحالة الفنية لمسألة السوق والعرض والطلب، إلا أنه وقبيل الحرب السورية كان هناك بعض من المساحة للتعبير عن الفن من خلال معارض وملتقيات فنية.
ويرى الرسام أن الحالة الفنية في سوريا “لم تمر بثورة مواجهة مع المجتمع من خلال فرض مدارس حديثة لتشكل حالة جدلية تساهم في زيادة الثقافة الفنية بل كانت تسير في خطوات سلسلة ومتوافقة في معظمها مع الحالة التسويقية”.
ولا ينفي “الحلبي” أن السياسة والأجندات كانت جزءاً من أروقة الفن.
وبحسب رأى الرسام، “فالسياسة وأجنداتها يمكن أن تؤثر في موضوعات الأعمال الفنية وفي أسلوبها وكذلك في طريقة تمويل الفنون والثقافة”.
في حين صنف “الحلبي” تأثير السياسة على الفن، بأنه يحمل احتمالين، إما أن يكون إيجابياً أو سلبياً، وذلك يعتمد على طبيعة السياسة والأجندات التي تؤثر في الفن.
فبين تشجيع الإبداع والابتكار ودعمه، وبين أن تحد السياسة الفن وتقمع الإبداع وتقيد الحريات يهذه المفارقات عبر الرسام عن تأثير السياسة بالفن.
والمشكلة الرئيسية التي يعاني منها كافة السوريين، بحسب رأي الرسام، في الهاجس الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والفني الحقيقي “وهي باختصار فهمنا للهوية الوطنية السورية”.
ويعتقد “الحلبي” أن المأساة التي تعرض لها السوريون، هي ذاتها ستشكل رافعة ثقافية وفنية بالمستقبل.
فهذه المعاناة بحسب قول الرسام، هي “أداة لتغيير العوامل التي كانت تدعم الثقافة والفنون بشكل جذري”.
وبالرغم من هجرة الفنانين والمثقفين اليوم، إلا أن “الحلبي” يرى “أننا مازلنا نمتلك فرصة أكبر لاكتساب المهارات من خلال التواصل والتبادل الثقافي شرط أن يكون ممنهجاً بالإضافة لتبلور حالة التعليم الذاتي والتي باتت اليوم من أهم عوامل تشكل شخصية”.