يغلب على نقاشات السوريين، لاسيما في الداخل، الحديث عن تفشّي الفقر والفاقة والجوع والبطالة والعوز والغلاء وانعدام سبل العيش، وما يتصل بذلك من انعدام للأمل خاصة وأن كل تصوّر لاحتمال حل الأزمة الاقتصادية سرعان ما تبدده الوقائع وتعنّت النظام. تناقش هذه المقالة ثلاثة تصوّرات واهمة طُرحت مؤخّراً لحل الأزمة الاقتصادية التي نجمت عنها كارثة الفقر والجوع: تصوّر أن سيطرة النظام على المناطق الغنية بالموارد كما في حالة شمال شرقي سوريا كفيل بحل بعض أزمته. وتصوّر آخر ربط بين عودة العلاقات بين النظام والدول العربية واعتباره الطريق الملكي لتدفّق الأموال والمساعدات. وتصوّر أخير بأن الفقر العميم لا بد أن يؤدي في نهاية المطاف لحدوث ثورة أو انتفاضة شعبية تجهز على النظام أو تدفعه للرضوخ للأمر الواقع!
من جهة، يتصوّر موالو النظام أن إعادة سيطرته على شمال شرقي سوريا يمثّل مدخلاً واسعاً لحل أزمة البلاد الاقتصادية المتفاقمة، فيما يدعم النظام الترويج لهذا التصوّر تبرّماً من معالجة أساس المشكلة المتمثّل في تهربه من القبول بمبدأ الحل السياسيّ، أو تغيير سلوكه على أقل تقدير، وفي كل الأحوال يواظب النظام على مزاولة لعبة الأنفاس الطويلة في مواجهة حقيقة أن سوريا باتت جمهورية معوزة لا يمكنها أن تبقى كذلك للأبد، وأنها غير قادرة على التعافي لوحدها، ولا إلى إعمار بنيتها التحتية دون مساعدات الخارج.
منطقياً، فإن تصوّرات النظام ومواليه ينبغي أن تُقرأ معكوسة، إذ تعني سيطرة النظام على شمال شرقي سوريا، توسيع حقل الإفقار والعوز والتجويع، والمضيّ في سياسة الانتقام وتصفية الحسابات مهما صَغُر حجمها، كما أن استعادة شيءٍ من الموارد، كالنفط في حال شمال شرقي وشرقي سوريا، لن يعني إنقاذ بقية البلاد، بقدر ما سيعيد تأهيل وحش الفساد وأجهزة النهب العام، على ما خبره السوريون خلال العقود الخمسة الماضية.
ففي الأصل كانت الجزيرة السورية بمحافظاتها الثلاث، الحسكة والرقة ودير الزور، أشد مناطق الإهمال الحكومي وضوحاً، والأقرب لنموذج المستعمرة الوطنية، لجهة استطالات الفساد في أجهزة الدولة البيروقراطية والأمنية، ثم إقصائها عن مدار التنمية، وحتى إهمال بنيتها الخدمية المتهالكة (في مدن المحافظات الثلاث كان ثمة شوارع وأحياء لم تعبّد بعد، ربما حتى يومنا هذا)، علاوة على التمييز الذي طاول سكان هذه المنطقة، واعتبارهم رعايا من الدرجة الثانية، وثالثة كما في حالة الكرد.
وليكن، افتراضاً، اعتبار استعادة المركز/دمشق السيطرة على موارد شمال شرقي سوريا منطلقاً لسياسة تعافي طويلة الأمد، إلّا أن ما يريده النظام هو مزيج من عدمية سياسية وتعويل مَرضيّ على عامل الوقت، بمعنى أن تفضيل النظام يتمثّل في أنه يريد العنب وقتل الناطور في الوقت عينه، عبر استعادة سيطرته على موارد شمال شرقي البلاد والإجهاز على الإدارة الذاتية؛ ففي 18 نيسان/أبريل 2023 أطلقت الإدارة الذاتية مبادرتها لحل الأزمة السورية، كان من بين بنودها “توزيع الثروات والموارد الاقتصادية بشكل عادل بين كل المناطق السورية”، فوضعت الإدارة بذلك جزرة الاقتصاد أمام حصان الحوار والمصالحة الوطنيتين، غير أن إغراء الاقتصاد لم يجذب النظام إلى حيث ينبغي أن ينجذب، أي إلى مصلحة السوريين في إعادة توزيع السلطة والثروة.
في جانب آخر، وأملاً في التخفيف من حدّة الأزمة الاقتصادية، جاءت تصوّرات بالغة التفاؤل رأت في المصالحة بين النظام العربي ودمشق مقدّمة لإيجاد حل للمأساة السورية عبر ضخ المساعدات المالية التي قد تخفف من وطأة الجوع والفقر والبطالة وانعدام الخدمات، غير أن الحديث عن حضن عربي دافئ وسخيّ، ما فتئ أن صار مسألة متهافتة مع تهاوي الليرة بشكل أسرع، وإصرار النظام على تحالفه مع إيران بشكل أشد رسوخاً، الأمر الذي نفّر الدول العربية التي حاولت اجتراح معادلة جديدة مفادها أن الحضور العربي قد يخفف من طغيان العلاقة بين دمشق وطهران، لصالح سوريا أكثر اعتدالاً. ورغم عدم اعتراض واشنطن على هذا التصوّر بشكل حاد وقطعيّ وتركها هامش مناورة كبير للدول العربية المطبّعة، فإن الخطوة العربية ومبدأ “الخطوة مقابل خطوة” فقدت كلّ معانيها مع استمرار تدفق الكبتاغون إلى دول الجوار والخليج، مضافاً إلى ذلك عدم إبداء النظام أي اهتمام بمسائل الحوار السياسي الوطني أو رغبة في معالجة ملف اللاجئين، وعدم قدرته تالياً على الافتراق، ولو جزئياً أو مؤقّتاً، عن سياسات إيران في سوريا والمنطقة.
فيما تمحور ثالث التصوّرات حول احتمال اندلاع ثورة خبز أو انتفاضة جياع في وجه النظام، ولعل مثل هذا التصوّر بات أقرب إلى التمنّي منه إلى قراءة موضوعية تأخذ بالحسبان طبيعة المجتمع السوري المهزوم والمنهار وقدرة النظام على الاحتكام السريع للعنف والقسوة حال شعوره بجدّية تلك المطالبات أو تنامي حركة الاحتجاجات.
لا تعني الاحتجاجات الفردية أو الأوسع من ذلك على سوء الأوضاع الخدمية والمعاشية واستمرار نزيف الليرة، نهاية النظام، وأيّ نظام من قماشة النظام السوري. بحسبنا أن نقرأ دفاتر الدول الدكتاتورية الفاشلة كلها ونقيس عليها، ولا تفيد إلى ذلك حركات العصيان أو إغلاق المحال أو الإضرابات في دولة ليس عندها ما تخسره، وفي دولة احتكمت خلال العقد الأخير إلى كل أساليب القسوة والعنف والخشونة في تأديب معارضيها، ومواليها كذلك. وعليه، فإن المراهنة على مثل هكذا تصوّر لا يعدو أكثر من أمنية أخرى للخلاص يبثّها معارضون استبدّ بهم اليأس، أو مبعثه أفراد يسعون إلى إقناع النظام بأن نهايته قد تأتي من مكان آخر حيث الجياع والمهمّشين هم القوّة التي يجب أن يحسب لها النظام ألف حساب.
والحال أنه لا يمكن الوثوق في إحداث المدقعين الجياع لثورة أو انتفاضة على ما يقوله التاريخ أيضاً، إذ تذهب بعض السرديات المعاصرة إلى أن أسباب الثورات الكبرى، كالثورة الفرنسية 1789، لم تكن لاعتبارات الفقر والفاقة والجوع، فقد كانت عوامل معززة ولكنها لم تكن العوامل الوحيدة لقيام تلك الثورة، التي حصلت نتيجة انقسام حاد بين أفراد النخبة الحاكمة وفقدان السيطرة على الجيش.
يبقى أن حاصل كل تصوّر من شأنه إسعاف بطون السوريين الخاوية سيبقى متوقفاً على طبيعة استجابة النظام، ولئن كان التشاؤم فيما خص قبول الأخير لأي تحوّل ينعكس إيجاباً على أحوال السوريين هو الأصل، فإن السوريين سيبقون محكومين باليأس.