منذ استلامهم السلطة عام 1963 فصل البعثيون بين السياسة الداخلية ونظيرتها الخارجية، متجاهلين ومعاندين إلى حد كبير الاعتراف بوجود علاقات متبادلة بينهما في عالم يزداد فيه انمحاء الحدود، وتتناقص فيه ممكنات السياسة الوطنية، إلى درجة كبيرة نتيجة لصعود أدوار القوى الكبرى وتغوّلها الاقتصادي السياسي.
هذا الفصل بين الداخلي والخارجي وقدرة العامل الخارجي الكبيرة على تفكيك وتخريب وتدمير البناء الداخلي للدولة، أورث إلى حد كبير إزدواجية في الموقف من السلطة السورية كسلطة فاسدة داخلياً على كل الأصعدة، وسلطة أخرى متخيّلة منفصلة عن واقعها الداخلي، تدّعي وتسوّق نجاح سياساتها الخارجية ونجاح “نهج المقاومة والممانعة” للمشاريع الامبريالية والاستعمارية، ومؤخراً أضافت السلطة السورية لهذه النغمة مفردة “الليبرالية الجديدة” وسوّقتها في إعلامها على أنها سبب كبير من أسباب مصائب البلاد والعباد.
هذه الازدواجية ترسخت لدى الأشياع والأتباع والمعارضين وحتى الأحزاب السياسية التي تتعاطى مع الشأن السوري، وبغض النظر عن أن هذه الازدواجية هي بروباغندا سلطويّة فجة إلا أنها اكتسبت عديداً من المؤمنين بها محلياً ودولياً وإقليمياً، خاصة مع الانحياز السوري المعلن إلى الجانب الإيراني في صراعها مع الولايات المتحدة “قوى الاستكبار العالمي”، في السنوات الأخيرة، وهو موقف لم تتخذه السلطة السورية بهذا الوضوح منذ الخمسينيات حتى الثمانينات، حيث بقيت سوريا ضمن عالم ما سمي وقتها دول عدم الانحياز، ويمكن ملاحظة أن نهج الأسد الأب رغم مواقفه المعلنة ضد الغرب و”اسرائيل” ابقى على خطوط اتصال مباشرة مع المناوئين لنهجه، ولطالما شكل الثالوث المصري (مبارك) والسعودي (فيصل) والسوري (الأسد) درعاً وقائياً مقبولاً للعالم العربي طيلة ما يقرب من ثلاثة عقود.
هذه الازدواجية في الموقف من السلطة السورية بدأت بالتفكك منذ بضع سنوات بشكل كبير، إذ إن سياسات المقاومة والممانعة لم تنتج سوى الخراب على المستوى السيادي (17 دولة لديها قواعد في سوريا) والخراب أيضاً على المستوى الداخلي، ولا يحتاج الأمر إلى كثير شرح في ظل الكوارث التي يحياها السوريون في عموم البلاد.
علامات هذا التفكك زادت مؤخراً في البيئة الموالية (بشكل أعمى) للسلطه عبر احتجاجات خجولة حتى الآن في محافظات الساحل السوري، خزان النظام الأكبر؛ فقد شهدت مدينة جبلة الساحلية تظاهرات بأعداد قليلة قبل أيام، وكان أن قمعتها السلطة كعادتها بوحشية موقعةً عدداً من الجرحى، فيما تعرض محافظ طرطوس إلى صفعة من أحد المواطنين على خلفية قرار من مجلس مدينة طرطوس بحلّ مجلس بلدة دوير رسلان.
المطالبات المتصاعدة بحل حكومة عرنوس في دمشق على خلفية تهاوي الوضع الاقتصادي السوري لم تؤدِ إلى نتيجة حتى الآن؛ فلم ينجح مجلس الشعب في اختبار حجب الثقة عنها وهذا كان متوقعاً نظراً لطبيعة المجلس وطريقة انتخابه، أو بالأدق تعيينه.
وحقيقة لو كان هناك قرار من “فوق” بحل الحكومة لفعل ذلك مجلس الشعب، لأن الحزب السياسي المسيطر على الحكومة هو نفسه المسيطر على البرلمان وعلى مقدرات البلاد منذ عقود، حيث يمكنه الطلب منها الاستقالة دون أن يحرج نفسه بحجب الثقة عنها لأن ذلك يطعن بنهجه وسياساته بوضوح.
وما حصل داخل قبة المجلس عبر تشكيل لجنة برلمانية حكومية، مع تصاعد الغضب الشعبي ضد الحكومة والنظام، ما هي إلّا لعبة جديدة نفذها النظام السياسي بشكل مخالف للدستور، ذلك أن مهام مجلس الشعب واضحة، ومهام الحكومة تنفيذ سياسات مجلس الشعب الواضحة أيضاً، والهدف من ذلك هو تفادي اتهام النظام بفشل سياساته الاقتصادية الداخلية وبالضرورة الخارجية منها، وكسب مزيد من الوقت لتنفيذ سياسات البنك الدولي حتى الوصول إلى ترتيبات ما بعد الحل السياسي، مثل تعويم الليرة ورفع الدعم وتحرير أسعار السلع والتوقف عن دعم القطاع العام وخصخصته بحجة عدم وجود موارد كافية بذاتها، كما هو الحال مع استثمار مطار دمشق الدولي، أول الغيث، عبر شركة إماراتية.
هذه اللعبة المستمرة من قبل النظام السياسي تهدف أيضاً إلى إنهاء دولة الرعاية وكل أشكالها السورية، وتتزامن مع ضغوط أمنية هائلة على الشارع لإسكاته وتخويفه وتهديده بأقصى أنواع العنف وتنفيذ ذلك واقعياً مرة جديدة، وما تفجير دراجة نارية في منطقة السيدة زينب في دمشق إلا رسالة واضحة بأن هناك من يراقب ويتابع بدقة وجاهز للتدخل عند الطلب (ولكن إلى متى؟)، ولا تخرج ملاحقة الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي أيضاً عن هذا الإطار، والأمثلة زادت الشهرين الأخيرين، منها اعتقال فراس غانم من مدينة بانياس وهو عنصر متقاعد من الأمن السياسي، ثم محاولة اعتقال لمى عباس، من قبل جهة أمنية حاولت اعتقالها الساعة الثانية ليلاً ما يذكّر بزوار الفجر في السبعينيات، بالمناسبة أيضاً فإنّ الواقعة تثير تساؤلات كثيرة ليس هنا موضعها.
تشير عشرات الوقائع أنّ دمشق الرسمية تعيش أقصى حالات عنادها على الصعيد الداخلي والخارجي، وترفض الاعتراف بوجود أزمة داخلية تجسّد نكرانها في حديث رئيس مجلس وزرائها،حسين عرنوس، الذي تحدث في لقاء مجلس الشعب الاستثنائي قبل أيام كممثل للسلطة وليس للوزراء، وحدّد مسبقاً أعداد من يحق لهم الكلام في ختام حديثه الذي استمر قرابة الساعة معلناً فيه سياسات حكومته بالضد من اعتراضات مجلس الشعب المهذبة ليقول “هذا ما لدينا دبروا راسكن” وهو نفس منطق حكومة العطري وعبارته الشهيرة “حسبنا الله ونعم الوكيل” .
إلى ذلك، لن تكون إقالة الحكومة حدثاً ذا قيمة، حيث سيعيد الحزب الحاكم تبديل الطرابيش لا أكثر، فيما حل المشاكل السورية المتزايدة يتطلب أكثر من مجرد تبديل الطرابيش. إذ يتطلب الأمر ذهنيات جديدة مرنة تتعاطى مع المسائل السورية بجناحيها الداخلي والخارجي من منطق الممكن والعاجل والضروري قبل حدوث انفجار جديد يأتي على ما تبقى من حياة في هذه البلاد، ويذهب بها إلى التفكك النهائي.
المرونة الآن هي مفتاح الخروج الجزئي من الدوامة السورية بدل العناد؛ فالعناد “قبيح، ويشتد القبح بمقدار ظهور الحجة على الرأي الذي تحاول رده على صاحبه، فمتى كانت الحجة أظهر كان العناد أقبح” (محمد الخضر الحسين في كتابه رسائل الإصلاح).
ما تبقى حالياً للسوريين هي صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية لتستجيب لغضب الرأي العام تبعاً للمادة 97 من دستور سوريا 2012، وحلّ مجلس الشعب قبل عام من انتهاء ولايته حسب المادة 111 من الدستور بقرار معلل عن رئاسة الجمهورية. يلي هذا تشكيل حكومة منتخبة بشكل حقيقي بعيداً عن قوائم الجبهة الوطنية التقدمية البائسة، حكومة تكنوقراط تقطع الصلة كلياً مع النهج البعثي الذي لم يورّث البلاد سوى الخراب.
وعليه، لا حل لسوريا إلا ببناء ثقة مع الداخل السوري قبل الخارج والاستماع بقلوب مفتوحة للسوريين الواقعين اليوم تحت أثقال لا تحملها الجبال، وتطبيق اللامركزية حتى تتمكن المجتمعات المحلية من المساهمة في بناء مجتمعاتها دون خوف النهب والإفقار.