نورث برس تتبع الخطى الأخيرة للأب باولو في الرقة
زانا العلي / أحمد عثمان – الرقة
سُمع عنه الكثير وقيل عنه الأكثر، لكن الإجابة على السؤال الأبرز “أين هو؟” يجاوب عليه قلة قليلة، فالبحث عنه أصعب من المثل القائل إن “البحث عن الإبرة في كومة قش مهمة شبه مستحيلة” حيث ظروف اختفائه وتبدل أمراء الحرب في بقعة الاختفاء المظلمة يعقد المشهد ويحرق خيوط الرواية التي تختلف أحداثها من راوٍ لآخر.
يبحث هذا التحقيق ظروف اختفاء الأب باولو في الرقة ويستطلع شهادات مقربين منه وكذلك متهمين بالوقوف وراء اختفائه. طيلة سنتين تابع معدا التحقيق شخصيات كانت مقربة وأخرى مساهمة في اختفائه.
1:15
“في التاسعة صباحاً أخبرني الأب باولو أنه يريد الذهاب إلى مبنى المحافظة للقاء قيادات من الصف الأول لداعش”، يقول خلف الغازي، مستذكراً صبيحة اختفاء الأب باولو قبل تسع سنوات.
لم يتمالك “الغازي” نفسه، وسأل الكاهن اليسوعي الإيطالي عن سبب زيارته لتنظيم متشدد، ويقول
“كان يود إخبارهم برسالة من ثلاثة بنود تتضمن: لست ضد الخلافة الإسلامية، لست ضد علم رسول الله، أنصحكم بعدم قتال الكرد لأن قتالكم مع الكرد سيخدم النظام”.
قبل ذاك اليوم بثلاثة عقود خدم الكاهن الإيطالي في دير مار موسى بريف دمشق، واعتبره كمركز لحوار الأديان، لكن بعد اندلاع الاحتجاجات في سوريا بشهرين نفته الحكومة خارج حدود البلاد لتواصله مع المعارضة وانتقاده سلوكها في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية.
في الواحدة ظهراً وقف الأب باولو أمام مبنى المحافظة الضخم والمشيد بطريقة فريدة، ليعود بعدها بنحو ربع ساعة إلى دوار الساعة غير البعيد عن المبنى.
حينها لم تكن وجهته معروفة، لكن “الغازي” يقول إنه كان قادماً إليه. لكن عربة عسكرية توقفت عند الزاوية الشمالية الغربية من الدوار وعند مطعم هارون الرشيد بالتحديد، ليخرج منها أربعة ملثمين مرتدين الزي العسكري ويعتقلون الكاهن الذي تغيرت وجهة حياته اعتباراً من تلك اللحظة.
سارع “الغازي” الذي علم من السكان ما حل بضيفه، إلى المبنى ليلتقي بقيادي سعودي ضمن تنظيم الدولة الإسلامية وهو “كساب الجزراوي” الذي يقال إنه كان أمير ناحية الكرامة بريف الرقة حينها، لكنه أنكر رؤية وقدوم باولو.
4/3
في الرابع من آذار/ مارس من نفس العام، ضجت وسائل الإعلام بخبر سيطرة فصائل المعارضة على الرقة وهي أول محافظة تخرج عن سيطرة الأسد، وتداول نشطاء مقطعاً مرئياً يظهر شخصاً يتوسط محافظ الرقة حينها حسن الجلالي، وأمين فرع حزب البعث في الرقة سليمان سليمان.
المقطع المرئي التقط في قصر المحافظ والشخص الجالس في المنتصف وعرفه المراسل كأمير جبهة الوحدة والتحرير الإسلامية دون ذكر اسمه، ظهر كقائد منتصر.
القائد هو سامر معيوف المطيران، وكان يمتهن التخدير قبل الاحتجاجات في البلاد وأسس “جبهة الوحدة والتحرير الإسلامية” مع عدنان صبحي العرسان وهو طبيب عظمية، وظهر في المقطع المرئي نفسه وكان يشترك في قيادة الفصيل مع المطيران، وشخص آخر يدعى أبو النشمي.
يقول عبد الله العريان وهو محامٍ من الرقة، إن فصيل المطيران كان يسيطر على مبنى المحافظة في فترة اختفاء الأب باولو وهي بداية الظهور العلني لـ”داعش”، فيما تقول شهادات أخرى إن المطيران كان قد بايع “داعش” سراً قبلها بفترة لكنه بقي ضمن فصيله كواجهة.
تربط العريان علاقة اجتماعية بوالد “المطيران” وهو المسؤول الأول عن مبنى المحافظة خلال فترة اختفاء الأب باولو بحسب المحامي الذي كان يزور والده بين فترة وأخرى للاطمئنان عليه، وفي أحد المرات صادف سامر واستفسر عن مصير الكاهن المختفي.
سألته “ماذا فعلتم بالأب باولو؟”، ليرد سامر المطيران بأنه سلمه لـ”داعش”، لكنه تجنب الإجابة على سؤال المحامي، إن كان لا يزال على قيد الحياة؟ لكنه أكد أنه سلمه بعد ما “إجانا برجليه”، وفق قول “المطيران”.
بعد اختفاء الأب باولو بأيام فجر “داعش” مفخخة في اجتماع لفصيل أحفاد الرسول، معلناً بداية التصفيات الفعلية للفصائل، وتتجه أصابع الاتهام إلى المطيران بإدخال المفخخة إلى موقع الاجتماع، وبعدها انسحب فصيله من مبنى المحافظة، ويتخذها التنظيم مقراً له، وتقول المعلومات إن عدنان العرسان وصل إلى السويد عبر تركيا ويتواجد أبو النشمي في مناطق سيطرة الحكومة السورية، بعد سرقتهما لمبالغ طائلة، بحسب العريان.
ويقبع سامر حالياً في سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، حيث سلم نفسه لها في العام 2017، ليلتقي به معدا التحقيق ويسألانه عن الأب باولو.
50
بعد ثمانية أشهر من اختفاء الكاهن اليسوعي في الرقة، وسيطرة “داعش” على الرقة بالكامل، قُرع جرس منزل المهندس “الغازي” في وقت متأخر من الليل، قالوا: “نحن الدولة الإسلامية ونريد ابنك؛ عيسى سؤال وجواب ويعود إلى المنزل، ولم ينتهِ السؤال حتى اللحظة”، حيث لا يزال مصير الابن الوحيد للمهندس المعارض مجهولاً.
بعد تلك الليلة بأربعة أشهر التقى “الغازي” بقيادي أردني ضمن “داعش”، ليخبره الأخير أن نجله مسجون في معتقل سري بالرقة ويطلق التنظيم عليهم تسمية مجموعة الأب باولو المؤلفة من 50 شاباً “ومصيرهم مرتبط بالخليفة أبو بكر وكبير الأمنيين”.
وبقي هاجس معرفة مصير نجله الوحيد لا يفارق المهندس الستيني، ليخبره أبو أنس العراقي وهو ملازم أول سابق في مخابرات نظام صدام حسين ومسؤول في النقطة 11 أو الملعب الأسود أهم معتقلات التنظيم في الرقة في أوائل حزيران / يونيو من العام 2017، بوجهة أخرى لنجله، لكن هذه المرة رفقة الأب باولو.
لا يزال يتذكر “الغازي” ندبات السكين والتشوهات في وجه العراقي، حينما أخبره بنقل نجله والأب باولو إلى جامعة الموصل، دون ذكر أية تفاصيل أخرى.
ورغم غياب أي دلالة على حياة نجله والأب باولو، يستبعد “الغازي” احتمالية مقتل الأب باولو ويعتبرها “صفر” بالمئة، لأن الفاتيكان وسبع دول أوروبية، لا زالت تطالب به وواشنطن نفسها تمنح مكافأة مالية تصل إلى 5 ملايين دولار، مقابل معلومات عن مكان وجود الأب باولو.
نعم نعم نعم .. لا أعلم
بعد محاولات عديدة حصل معدا التحقيق على إذن الدخول إلى سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وقابلا المتهم الأول بقضية اختفاء الأب باولو، وهو سامر معيوف المطيران الذي تحول من قائد جبهة الوحدة والتحرير إلى عضو بتنظيم الدولة الإسلامية المصنف على قوائم الإرهاب.
رفض المطيران التحدث أمام الكاميرا، ولم ينكر مبايعته “لداعش” لكنه أنكر مشاركته في أي هجمات للتنظيم على عكس شهادات جمعها معدا التحقيق بأنه شارك في معارك بكوباني وسري كانيه/ رأس العين والحسكة، وجرت المحادثة كالآتي:
نورث برس: كنت قائد جبهة الوحدة والتحرير الإسلامية؟
سامر المطيران: نعم
نورث برس: كنت تسيطر على مبنى المحافظة؟
سامر المطيران: نعم
نورث برس: كنت تسيطر على قصر المحافظ؟
سامر المطيران: نعم
وعند سؤاله عن الأب باولو أنكر شهادات الشهود، وقال: “عند اختفاء الأب باولو نحن (جبهة الوحدة والتحرير) كنا في قصر المحافظ غربي حديقة الرشيد وسط المدينة، ولم نكن في مبنى المحافظة”.
وقال “المطيران” إن جبهة النصرة هي التي اعتقلت الأب باولو وكان أبو سعد الحضرمي الملثم دائماً يتزعمها حينها، وأنه التقاه مرة واحدة فقط.
إلا أن خارطة السيطرة العسكرية تقول إن جبهة النصرة في ذاك الوقت لم تكن تسيطر على المبنى واقتصرت سيطرتها على أطراف الرقة، واتخذت مبنى البلدية كمقر لها وكانت قيادتها تتواجد معمل القرميد شرقي الرقة.
عرض معدا التحقيق المقطع المرئي المنشور عند سيطرة “المطيران” على مبنى المحافظة واعتقال محافظ الرقة وأمين فرع حزب البعث، وماذا فعل بهم؟
قال السجين، إن جبهة النصرة عندما دخلت إلى المدينة “أخدتهم منا بقوة، وليس لي علاقة بماذا حل بهم”.
ولتشابه المصير تواصل معدا التحقيق مع معبد السليمان، وهو الابن الأكبر لـ سليمان السليمان أمين فرع حزب البعث في الرقة على أمل الحصول على أي دلالة عن الأب باولو.
يقول “السليمان” إن “المطيران” مسؤول عن اعتقال والده وأخبره ذات مرة أن الأمر “خرج من يده، وهو لدى جبهة النصرة”، وبعد محاولات عدة ووساطات تواصل الابن مع أبو سعد الحضرمي الذي أكد استلامهم ونقلهم إلى أبو محمد الجولاني زعيم هيئة تحرير الشام، (النصرة سابقاً) بطلب من الأخير مروراً بمدرسة صقر قريش في الكسرات جنوبي الرقة، وصوامع السلحبية غربي الرقة وسد الفرات.
بحضور مندوب الجولاني نقل المحافظ وأمين فرع الحزب وبمرافقة أبو سعد الذي لم يعرف المكان كونه كان مغطى العينين كما يقول، لكنه يخمن أن “التربة وجغرافية المنطقة تشير لريف إدلب”.
عشاء للسمك
مع سيطرة “داعش” على الرقة أصدر حكم القصاص على المحامين، وبعد تدخلات العشائر تخفف الحكم بدورة استتابة وهي دورة يعتبرها التنظيم “عودة للدين وتكفير الذنوب”، وكان العريان من بين الخاضعين للدورة أواخر 2015.
كان أبو علي الشرعي، يحاضر بهم، وهو أحد الأمنيين ذو السمعة السيئة ضمن التنظيم، وسأله المحامي يوماً عن الأب باولو بعد مقدمات طويلة، ليرد “سويناه عشا للسمك” بمعنى أنهم قتلوه ورموه في نهر الفرات.
“سويناه عشا للسمك” بمعنى أنهم قتلوه ورموه في نهر الفرات.
ويشرح المحامي سبب رميه في النهر كون الأب باولو مسيحي والتنظيم المتشدد يعتبر المسيحيين “كفار وأنجاس” ولا يجوز دفنهم في أرض المسلمين، لذا تم رميه في النهر، إذا صح قول الشرعي.
يقول المحامي إن هناك أربعة مواقع معروفة كان التنظيم يدفن فيها من يعتبرهم “كفاراً وأنجاس” وهي حفرة الهوتة في بلدة السلوك شمال الرقة، وسهلة البنات شمال شرقي الرقة، وموقع يبعد 8 كم جنوب الرقة في بادية الشامية، ونهر الفرات.
يستنتج العريان من معلوماته أن “المطيران، أكد لي أنه سلم الأب باولو لداعش وأبو علي الشرقي أكد لي مقتله”.
يحلل العريان تسليم سامر الأب باولو لـ “داعش” بمحاولة التقرب منه كونه التنظيم الأشرس، والأكثر تنظيماً لا سيما بعد أن بدأ يفتك بالفصائل الأخرى، وقدم لهم مبنى المحافظة كهدية والذي يرمز للحكم في الرقة، ويلمّح “العريان” إلى أن سامر كان يتودد للأقوى، فقد سلّم المحافظ ورئيس فرع الحزب لـ “جبهة النصرة”، وبعدها الأب باولو حينما بدأ التنظيم بالظهور العلني.
ويوافقه في الرأي معبد الحسون كاتب سوري، في سلسلة مذكرات “الرقة والثورة.. داعش أو نحرق البلد”، أن سامر كان ينسق سراً مع “النصرة” وساهم بتفكيك “جبهة الوحدة والتحرير”، ومن ثم بايع “داعش”.
الخلاصة:
يبدو أن رواية اختفاء القس الإيطالي كُتب لها أن تبقى مفتوحة – حتى الوقت الحالي على أقل تقدير– كما أن مقتل قيادات من “داعش” كانت تتصدر المشهد في تلك الحقبة الزمنية والتي يتوقع أنها متورطة في إخفاء الأب باولو، تعقد مهمة البحث عنه وتجعلها شبه مستحيلة.