أردوغان – السيسي: سر انقلاب الصورة!

بين يونيو/ حزيران عام 2013، تاريخ ثورة الشعب المصري التي أوصلت عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة المصرية، وبين نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2022، أي تاريخ المصافحة الشهيرة بين أردوغان والسيسي على هامش افتتاح نهائيات كأس العالم بكرة القدم في العاصمة القطرية الدوحة، جرت مياه كثيرة بين أنقرة والقاهرة، استبدل خلالها أردوغان نظارته العثمانية في النظر إلى السيسي بسياسة تقوم على المصالح وليس الإيديولوجيا، فعندما وصل الأخير إلى الحكم، وصفه أردوغان بـ”الانقلابي والدموي”، وتعهد بعدم الاعتراف بحكمه، وأعلن مراراً رفضه اللقاء به، وإمعاناً في موقفه هذا، واصل أردوغان رفع شعار رابعة في كل مناسبة تعبيراً عن دعمه لجماعات الإخوان المسلمين، بل حول تركيا أيضاً إلى مقر للتنظيم الدولي للإخوان، ووفر المنابر الإعلامية للهجوم على السيسي، ووصل به الأمر إلى تهديد أمن مصر من بوابة ليبيا عبر دعم الجماعات الإسلامية المسلحة في ليبيا، وتوقيع اتفاقيات بحرية وعسكرية مع حكومة طرابلس. بعد كل ما سبق، بدأ أردوغان في تغيير سياسته تجاه السيسي، ويرسل له رسائل الغزل، ويعانقه في الدوحة، ويتبادل السفراء معه، وصولاً إلى توجيه الدعوة له لزيارة تركيا! فما الذي جرى؟ وما سر هذا التحول، بل الانقلاب الأردوغاني، على نفسه؟   

لقد أدرك أردوغان أن رهانه على الإخوان المسلمين لقلب أنظمة الحكم في العالم العربي، وربط هذا العالم بسياسة الباب العالي في اسطنبول، وصل إلى طريق مسدود، كما أدرك أن الاتفاقيات التي وقعها مع حكومة السراج في ليبيا للتحكم بموارد الطاقة في المتوسط لا جدوى منها في ظل المعارضة المصرية واليونانية والقبرصية لها، خاصة مع دخول هذه الدول في تحالف إقليمي نتج عنه إقامة “منتدى الغاز” في القاهرة من دون توجيه الدعوة لتركيا.

 أدرك أردوغان أيضاً أن مصر بعلاقاتها الجيدة مع دول الخليج العربي، نجحت في خلق حالة من التوازن الإقليمي في مواجهة المشروع التركي الإقليمي، وفوق ذلك أدرك أن البقاء على نهجه السابق لم يعد ممكناً، في ظل الوضع الاقتصادي الصعب لبلاده، وأزمة انهيار الليرة أمام الدولار، والخسارة الكبيرة التي لحقت به جراء توتر العلاقة مع مصر التي كانت تشكل بوابة تركيا للتجارة مع أفريقيا. وهكذا وجد أردوغان أن الانعطافة لا بد منها، لاسيما أن الحجة القديمة – الجديدة متوفرة، وهي تصفير المشكلات مع دول الجوار بعد سنوات من خرقه لهذا الشعار عبر تدخلاته العسكرية في سوريا وليبيا والعراق وكردستان العراق، ودعمه لكل الفصائل الإسلامية المتشددة، وفي زحمة انعطافته نحو دول الخليج وإسرائيل أدرك أن المصافحة التي جرت مع السيسي في الدوحة غير كافية لإعادة الدفء إلى العلاقات مع مصر، فكان الثمن تقديم رأس الإخوان المسلمين، وهكذا بدأ يضيّق الخناق عليهم، ويقيّد منابرهم، ويعد قوائم ترحيلهم، ويوافق على تسليم بعضهم لمصر رغم أن بعضهم محكوم عليهم بالإعدام، ويسحب الجنسية من العشرات منهم، ويمنع قادتهم من ممارسة نشاطهم، ويجمّد أموالهم في البنوك، ويضع يده على عقاراتهم وأصولهم المالية، وهكذا بدا مشهد التضحية بالإخوان على مذبح العلاقة مع العدو القديم لا بد منه لرؤية السيسي في أنقرة، من أجل تدوير الزوايا، والبحث عن تفاهمات، خاصة أن أردوغان يدرك أن مصر مأزومة اقتصادياً مثل تركيا، ويعرف لهفتها في البحث عن موارد مالية جديدة لوقف مسلسل انهيار الجنيه أمام الدولار، فلمَ لا يكون هذا الإحساس المشترك منطلقاً لتدفق التجارة وعقد الصفقات بما فيها العسكرية مع الحديث عن إمكانية بيع مسيّرات تركية لمصر، وهنا بعد طوي أردوغان صفحة الإخوان مع القاهرة، يبرز أهمية تدوير الخلافات بشأن خرائط واتفاقيات الطاقة في المتوسط، حيث يبحث الطرفان عن فؤائد مشتركة، سواء في الساحة الليبية من خلال القول إنهما يعملان من أجل السلام فيها، عبر دفع الأطراف الليبية المتصارعة إلى عملية سياسية من بوابة الانتخابات، أو من خلال دور مصري من أجل التوصل إلى تفاهمات مع اليونان وقبرص، تنتهي بإدخال تركيا إلى منتدى غاز شرق المتوسط، في المقابل سيجد أردوغان خلال اللقاء مع السيسي فرصة للتعبير له عن استعداده للقيام بوساطة بين مصر وأثيوبيا بشأن سد النهضة، وحديث الخرائط والأداور المتبادلة قد تصل إلى الملف السوري حيث كانت مصر مبارك عرّاب اتفاقية أضنة بين دمشق وأنقرة، في وقت يعدّ أردوغان العدة لتكرار تجربة التضحية بإخوان مصر مع الجماعات السورية المعارضة والمسلحة بعد أن استخدمهم في حروبه داخل سوريا وخارجها.

في جميع الأحوال، زيارة السيسي إلى تركيا تشكل نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين، ولكنها في الوقت نفسه تشكل اعترافاً تركياً صريحاً بفشل سياسة أردوغان في اعتماد البعد الأيديولوجي في علاقاته مع دول المنطقة، وضرورة انتهاج واقعية سياسية حتى في الشكل، تطلعاً إلى فتح نوافذ جديدة أمام اقتصاد بات يشكل التحدي الأصعب لحكمه في ولايته الثالثة والأخيرة.