خلال العامين الماضي والحالي، كثرت تصريحات من مقربين من أردوغان في الحزب الحاكم أو من إعلاميين موالين له، عن أن معاهدة لوزان ينقضي مفعولها بعد مرور مئة عام على توقيعها في يوم 24 تموز/يوليو 1923، وهي المعاهدة التي أقيمت الدولة التركية القائمة الآن على أساسها بعد ثلاثة أشهر من ذلك التوقيع. بالتزامن مع هذا أو قبله، وبين أعوام 2016-2019 كان هناك تصريحات من إبراهيم كالن ،الناطق السابق باسم الرئاسة التركية، ومن وزير الداخلية الأسبق سليمان صويلو، تقول أو تلمح بأن حدود تركيا مع سوريا والعراق هي حدود “الميثاق الملي” الذي أعلنه البرلمان الموالي لمصطفى كمال في عام 1920 وطالب بها رئيس الوفد التركي في مؤتمر لوزان عصمت باشا (إينونو) ولكنه لم ينجح في تحصيلها، وهي حدود تشمل أنطاكية- إدلب- حلب- الرقة – الحسكة – الموصل- أربيل – السليمانية – كركوك.
اليوم تبدأ المئوية الثانية لمعاهدة لوزان، وفي القادم من الأيام يجب مراقبة كيفية التصرف التركي، وخاصة من حزب العدالة والتنمية بعد فوزه هو وأردوغان بالانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، نحو محاولتهم الخروج من ذلك القفص الذي اسماه “معاهدة لوزان”، والذي قبل مصطفى كمال (أتاتورك، لاحقاً) بأن “تسجن” تركيا فيه.
هناك معطيات كثيرة عن النزعة التوسعية التركية، وعن أن تركيا لا تقبل أو هي مصممة على تجاوز حدود عام 1923. أول مؤشرات تلك النزعة، كان ضمها في عام 1939 للواء إسكندرون الذي اعترفت تركيا في (لوزان) بأنه ضمن الأراضي السورية، ومن ثم ثانياً، السيطرة التركية العسكرية على شمال قبرص بعد غزو 1974، وثالثاً، السيطرة العسكرية التركية عام 2016 على شريط جرابلس- الباب- إعزاز، وعلى مدينة عفرين ومنطقتها عام 2018، ثم على شريط تل أبيض- رأس العين/سري كانيه في عام2019، ومنذ الخريف الماضي يصرح أردوغان ويهدد بأنه سيقيم منطقة شريط حدودي على الحدود السورية التركية بعمق 32 كيلومتراً بعد السيطرة على مناطق تل رفعت ومنبج وكوباني (عين العرب) وبحيث يكون هذا الشريط متصلاً من بلدة بداما بمحافظة إدلب وحتى رأس العين/سري كانيه، وهناك إجراءات في المناطق السورية الخاضعة للأتراك الآن، مثل إقامة مجمعات سكنية هناك لإيواء اللاجئين السوريين في تركيا ومعهم نازحون سوريون من مناطق حوران والغوطة وشمال حمص وجنوب محافظة إدلب وذلك مكان كرد سوريين تم تهجيرهم إثر الغزو التركي العسكري لتلك المناطق وخاصة عفرين، ومثل ربط اقتصادي لتلك المناطق بتركيا إضافة إلى ربطها بالبنية التحتية التركية من ماء وكهرباء واتصالات، وبشكل يذكر بما جرى في “الوضعية الخاصة” التي كانت للواء إسكندرون بعد الاتفاق الفرنسي- التركي عام1937 والتي كانت ليست أكثر من مرحلة انتقالية عابرة نحو ضم 1939 للواء إلى تركيا. في العراق، من حين لآخر تظهر مؤشرات على أن الأتراك ينظرون لمدينتي الموصل وكركوك بنظرة خاصة .
يمكن أن يضاف لذلك ما هو أبعد من حدود “الميثاق الملي”، حيث أظهرت تركيا أنها لا تقبل بالحدود البحرية مع اليونان في بحر إيجة التي ثبتتها معاهدة لوزان، وكما أنها تخلت في (لوزان) عن قبرص وأقرت بواقع السيطرة البريطانية عليها منذ عام 1914 فإنها عبر غزو 1974 لم تنقض ذلك المُقر في (لوزان) فقط بل نقضت اعترافها باستقلال ووحدة أراضي الجمهورية القبرصية عام1960. يمكن أن يضاف لذلك أيضاً، أن تركيا، التي أقرت في (لوزان) بواقع أن الممتلكات العثمانية في إفريقيا لا تخصّها ومنها ليبيا التي تخلى العثمانيون عنا لإيطاليا عام1912، تبدي مؤشرات عملية على أن لها أطماع في ليبيا أولاً من خلال اتفاق 2019 بين أردوغان وحكومة فايز السراج الليبية والتي تعتبر أن هناك حدوداً بحرية بين ساحلي تركيا وليبيا عبر المنطقة الفاصلة بين جزيرتي قبرص وكريت كما توحي عملية الانخراط العسكري- الأمني- الاقتصادي التركية في الصراع الليبي بأن هناك في أنقرة تفكيراً في ليبيا يتجاوز مساعدة الإسلاميين ليصل إلى إقامة دولة ليبية تابعة للأتراك يسودها متحدرون ليبيون من الأصول التركية، وخاصة من أبناء مدينة مصراتة.
يمكن هنا، القول وبعد تجربة قرن من الزمن على (لوزان) بأن تركيا دولة توسعية، مثلها مثل دولة إسرائيل، لا تقبل بالحدود القائمة التي حددتها معاهدة ميلادها في (لوزان)، مثل إسرائيل التي لم تقبل بحدود يوم ميلادها في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 عبر قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي توسعت أبعد منه في حرب 1948 ثم في حرب 1967، وهي عبر قراراتها بضم القدس والجولان، وعبر عمليات الاستيطان في الضفة الغربية، قد جعلت حدود قرار ميلادها وراءها بعشرات آلاف الكيلومترات المربعة، ويبدو أن الأتراك يؤمنون بقول دافيد بن غوريون عن أن “الحدود هي حيث يقف العسكر”.
في هذا الصدد، يمكن إيجاد دول توسعية، مثل المثلين التركي والإسرائيلي، في الزمن المعاصر، هما صربيا، مع تفكك يوغسلافيا في عامي 1991و1992، عندما حاولت لاحقاً وحتى حرب كوسوفو عام1999، ضم أراضٍ من كرواتيا والبوسنة وكوسوفو لها بالقوة العارية والتطهير العرقي، وروسيا التي تشعر بأنها في قفص حدود ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، وهي رغم اعترافها في أثناء تفكك الاتحاد السوفياتي بالأسبوع الأخير من عام 1991 بالحدود القائمة بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي الخمسة عشر ومنها الحدود بين روسيا وأوكرانيا على أنها الحدود الجديدة بين الدول المنبثقة عن الانهيار السوفياتي، إلا أنها نقضت ذلك من خلال ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 ومن خلال ضم 30 أيلول/سبتمبر 2022 للمناطق الأوكرانية الأربع (لوغانسك- دونيتسك- زابوروجيا- خيرسون) إلى روسيا، وفي خطاب سبق الغزو الروسي لأوكرانيا بثلاثة أيام في 21شباط/فبراير2022 تحدث بوتين عن أوكرانيا بوصفها “دولة مصطنعة قام بتصميمها عام 1922مهندس معماري اسمه لينين”.
تكثيفاً لما سبق: راقبوا سلوك وسياسات تركيا ما بعد يوم 24 تموز/يوليو 2023!